الرئيسيةأخبارمقالة: قصة ليلة سقوط الأقنعة

مقالة: قصة ليلة سقوط الأقنعة

مشهد تمثيلي يوثق عملية الاستخبارات المغربية بتطوان التي أنهت نشاط منظمة "إلى الأمام" السرية في الثمانينات.
     في ظل المد الشيوعي، الذي امتد لنصف الكرة الأرضية، بعد سنوات مرّت على زمن ما بعد الثورة البلشفية، والذي كان ينطلق من جمهوريات الاتحاد السوفيتي ، وحلف ” وارسو”. انبثقت في المغرب سنوات السبعينات، حركة تضم في صفوفها ثلة من ” الرفاق” الشيوعيين، كانت تدعى منظمة ” إلى الأمام “، وهي منظمة اتخذت من العمل السري منهاجا لها ، قصد إسقاط النظام المغربي، و كان يتزعمها المعارض ” أبراهام السرفاتي”.
     كان أفراد هذه المنظمة السرية، يطمحون في أن يكونوا هم الأوليغارشية، في ظل النظام الذي يحلمون به.
وكما قال الفيلسوف فريدريتش نيتشه:  “اللحظة التي نحب فيها شيئا  أو نكرهه، لن نتمكن من رؤيته على حقيقته”.
 فالانسان لا يرى العالم كما هو، بل كما يعجبه في أعماقه، أو كما يلطخه كرهه له، وهو ما ينطبق على أفكار منظمة ” إلى الأمام “، عندما نخضعها  للتحليل النفسي الاجتماعي, وهو ما يتماهى معه التحليل السوسيولوجي في تفكيكه للفكر الشيوعي، فكراهية الشيوعية للرأسمالية، ليست كشفا بل تشويه يرسم الأشياء  بالانفصال عن الواقع.
 إلا أن هذا الحلم بالنسبة لمنتسبي منظمة “إلى الأمام” سيجهض قبل ولادته وسط أسوار مدينة تطوان.
     قبل نهاية الثمانينات وفي السنتين الأخيرتين من عقدها، كانت هذه المنظمة بفعل تشعب علاقاتها، مع النخبة الشيوعية العالمية، و بخاصة السرية منها ، كانت قد خططت للانقلاب على النظام العام بالمملكة المغربية، و على إثر ذلك ، وصلت رسالة مشفرة من إدارة مديرية مراقبة التراب الوطني بتطوان، إلى المديرية العامة بالرباط، تفيد بالخبر المشفر التالي:
  -الأسماك تحوم حول الشبكة، وقد يتم اصطيادها هذه الليلة، الطقس  مناسب للصيد …فهل نبحر؟
     بعد لحظات جاء الأمر من الرباط، برسالة مشفرة أيضا، تقول:
   -نريد صيدا ضخما و ثمينا
    هذه الليلة بمدينة تطوان، سيكتب الفصل الأخير في نعش هذه المنظمة، كفاءة رجال استخبارات ” dst” بتطوان على المحك.
   كانت منظمة “إلى الأمام”، تضم في صفوفها مجموعة رفاق، من الأطباء و المهندسين و الأساتذة، شكلوا فيما بينهم خلية لوضع اللمسات الأخيرة، للقيام بمحاولة جادة لإسقاط النظام المغربي، حيث سيجتمعون هذه الليلة بأحد المنازل بمدينة تطوان، لمناقشة الخطط المطروحة للتنفيذ ، قصد بلوغ الهدف المحدد.
   كان أعضاء هذه الخلية لا يعرفون بعضهم البعض، كانوا يلتحقون  بأماكن اجتماعتهم السرية، و هم مقنعين بأقنعة، صنعت لهم، ما بين كوبا و شيكوسلوفاكيا ورومانيا، وذلك درءا كي لا ينكشفوا جميعا، إذ إن انكشف الحجاب عن أحدهم، فإنه لا يعرف وجوه  رفاقه و أسماءهم الحقيقية…
    يراقب ماسح الأحذية المتنقل، و هو رجل أمن من “دي إس تي” محيط البناية، التي يوجد فيها المنزل موضع الاشتباه، قبالة البناية، رجل أمن من “المكتب الثاني”، يبيع فاكهة الموز والتفاح، على متن طاولة عربة متنقلة، بينما انتشر ضباط آخرون داخل سيارات مختلفة النوع والصنف، عند تقاطعات الشوارع  المحيطة بالمنزل المستهدف، مكان الاجتماع.
    كانت كل استخبارات تطوان  وبتنسيق مع بعضها البعض، و  على اختلاف أجهزتها، قد زرعوا جهاز تصنت داخل المنزل الذي سيجتمع فيه كبار منتسبي  منظمة “إلى الأمام” ، جاء الأمر من العاصمة الرباط لاعتقالهم، أعدت خطة لإلقاء القبض على أفراد المنظمة المجتمعين، هذه الليلة.
شارع محمد الخامس ، و الشوارع المتفرعة عنه، بدت خالية من المارة، الساعة قريبة من بداية الليل، السماء تلبدت بالغيوم  الرمادية،التي بدأت تزحف ببطىء في الفضاء العالي، الجو بارد، وفصل الشتاء يظهر الحياة حزينة هذه الليلة بتطوان ، إذ  فصل شتاء هذه السنة بارد و قارص، رياح عاتية هوجاء ، تهز أركان البيوت هزا، لكن تطوان هذه الليلة مع حدث كبير، سيطوى بعدها في صمت تام ..!
   خاطب الضابط  نور السعيد الموجود داخل سيارة  من نوع “سيمكا” من جهاز اللاسلكي، زميله الضابط عبد الواحد الموجود في مكان آخر داخل سيارة رونو 4، قائلا:
    -الحفل سيبدأ بعد لحظات
   بدوره خاطب الضابط عبد الواحد باقي الوحدات المنتشرة بمحيط المنزل موضع الشبهة قائلا:
   -انتباه، الحوت “السمك” دخل إلى الشبكة
    من جهة أخرى ،كانت الاستخبارات العسكرية، تراقب العملية، وذلك عبر عسكري برتبة ” أجودان” كان يبدو للوهلة الأولى إن لوحظ وجوده في مسرح العملية ، بالنسبة للعامة من الناس، كما لو أنه مجنون أو متشرد، يطلق الكلام على عواهنه للإيهام أنه مجنون، لباسه رث، شعره كثيف ،حافي القدمين، وجهه و رجلاه متسخان، أظافره غير مقصوصة، يعطي الانطباع على أنه معتوه أو متشرد حقا، كان مزودا بجهاز اتصال مدسوس في أحد جيوبه الداخلية، أطلق جملة مشفرة وفق ما يعنيه التشفير المتفق عليه و الذي يعني ما يعنيه:
    -كأس الماء ممتلئ، و الفئران في الملعب
     كانت الجملة تعني أن : “الحضور اكتمل بمنزل الاجتماع”
حوّل المنسق ضابط الاتصال في الاستخبارات العسكرية، الإخبارية لمكتب مديرها العام، عبر رسالة مشفرة أرسلت لمكتبه ، كتبت بلهجة أمازيغية غير معروفة للعموم، كانت تتكلمها أحد القبائل الأمازيغية شبه منقرضة بجبال الأطلس، ولا يعرفها إلا القلة من ضباط سلك الاتصالات السلكية و اللاسلكية و الذبذبات الراديوية.

  الساعة الآن  تشير إلى 11.54 ليلا، صعد رجال الأمن سلالم البناية بسرعة فائقة، اقتحموا المنزل، اعتقلوا أفراد المنظمة، وجوههم  يومئذ لا وجود لها في سجلات البطاقة الوطنية بمديرية الأمن الوطني، لأنهم يرتدون أقنعة، لكن كانت لديهم جوازات سفر بصور هذه الأقنعة، صادرة من بعض دول جمهوريات الاتحاد السوفياتي، و كوبا…أزيلت عنهم الأقنعة، عرفت شخصياتهم الحقيقة، سقط القناع تلو القناع، وانتهى الفصل الأخير من سيرة منظمة “إلى الأمام”، حيث قدم أعضاءها للمحاكمة بالتهم المنسوبة إليهم، وهو ما عرف بملف ” الأقنعة”, أدارته استخبارات مدينة تطوان، على اختلاف مشاربها بكفاءة مهنية، تضاهي كفاءة استخبارات عريقة في المهنة.

نزار القريشي

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *