تعد السياحة الثقافية أحد أبرز أشكال السياحة الحديثة التي باتت تستقطب اهتمام الباحثين وصناع القرار نظرا لدورها الحيوي في إبراز الخصوصيات الثقافية والحضارية للمدن،وتحقيق التنمية المستدامة. وفي السياق المغربي،تبرز مدينة طنجة كإحدى المدن التي عرفت خلال العقود الأخيرة تحولا نوعيا في مجال تنظيم المهرجانات المحلية والدولية على حد السواء، الشيء الذي أسهم في إعادة تشكيل صورتها الثقافية على الصعيدين الوطني والدولي. وتطرح هاته الدينامية المتصاعدة أسئلة جوهرية حول مدى تأثير هذه المهرجانات على تثمين السياحة الثقافية بالمدينة. حيث يشكل المسرح بوصفه فعلا ثقافيا وجماليا احد أبرز الروافد الرمزية السياحية الثقافية في المدن ذات الذاكرة التاريخية الغنية.وتأتي مدينة طنجة كمجال حضري تراكمي، شهد تفاعلات كونية عبر قرون، لتحتضن اليوم مهرجانات مسرحية دولية أصبحت تشكل جزءا من استراتيجيات الترويج السياحي والتنمية المحلية. من هنا تطرح أسئلة مرورية حول كيف تساهم المهرجانات الفنية والثقافية في المغرب، وخصوصا في مدينة طنجة،في إغناء السياحة الثقافية وتحويل المدينة إلى وجهة تفاعلية قائمة على الجذب الجمالي والتبادل الإبداعي ، وما حدود هذا التأثير في ظل التحديات البنيوية والثقافية والتنموية الراهنة؟ وهل يكفي أن تنظم المدينة مهرجانات ثقافية كي تتحول إلى قبلة سياحية؟ وأي دور تلعبه المهرجانات الفنية في إعادة تعريف تجربة السائح؟ وهل إستطاعت طنجة بكل ما تحتضن من تظاهرات أن تبني نموذجا مستدام للسياحة الثقافية؟؟ ام ان الحلم يصطدم بواقع التمويل والتسويق وتدبير الفعل الثقافي؟ ويبقى السؤال المطروح كيف يتحقق دور مهرجانات المسرح في طنجة ضمن منظومة السياحة الثقافية عبر تحليل الإمكانات ورصد التحديات واقتراح آليات الارتقاء بها في أفق مقاربة تنموية شاملة. 1-السياحة الثقافية في سياق التحولات العالمية. في ظل تحولات العولمة وتنامي الرغبة في إستكشاف الآخر الثقافي أضحت السياحة الثقافية إحدى أكثر أنواع السياحة دينامية واستقطابا، بما توفره من تجربة تتجاوز الاستجمام الموسمي إلى تذوق الفعل الثقافي المحلي. ويجمع الباحثون على أن هذا النوع من السياحة يقوم على الرمزية والهوية أكثر من إعتماده على المنطق الربحي الكمي .بحيث أنهم يعتبرون السياحة الثقافية ليست فقط نشاطا اقتصاديا بل عملية رمزية تعيد تشكيل العلاقة بين الفضاء الثقافي والذات وتسهم في بناء المعنى داخل المجال. وتحمل مدينة طنجة طابعا فريدا بحسب توصيف “إدوارد سعيد” يجعل منها “مدينة الحافة”.بحيث تتوسط المتوسطي والأطلسي وتلقب ب”مدينة البحرين” وتنتج باستمرار تفاعلات رمزية وهوياتية. و كما هو معروف عنها فقد احتضنت عبر التاريخ نخبة من المثقفين العالمين الشيء الذي رسم صورتها كفضاء إبداعي وتعددي.ويستشهد المؤرخ المغربي علي الإدريسي أن طنجة تتميز بتمثل مركب للهوية. تجعل من إدماجها في السياسات السياحية والثقافية تحديا وفرصة متميزة في آن واحد. 2،-المسرح رافعة رمزية للسياحة الثقافية: يتمتع الفن المسرحي بخصوصية كونه فعل حي يتطلب الحضور والإنخراط الفعلي واللحظي بين كل الفاعلين، مما يجعله وسيلة مثلى لخلق علاقة مباشرة بين الجمهور والثقافة المحلية.وتشكل مهرجانات المسرح في هذا السياق منصات لإعادة سرد الهوية الحضرية وتوسيع المدارك السياحية خارج النمطية. ومن ناحية أخرى المهرجانات تسهم في توليد رأسمال ثقافي رمزي ينعكس على صورة المدينة في الفضاء العام ويغري فئات جديدة من الزوار الباحثين عن العمق لا القشور السطحية والمتعة اللحظية بل تأثير الفعل المسرحي على الثقافة والخيال الجمعي . وتحتضن مدينة طنجة عدة مهرجانات محلية ودولية لعل من أبرزها :”مهرجان طنجة الدولي للمسرح الجامعي”و”مهرجان المسرح المتوسطي”وغيرها ،غير أن هذه المبادرات رغم إشعاعها الثقافي، تظل حبيسة مجموعة من الإكراهات، ولعل من أبرزها محدودية التمويل العمومي، وضعف الشراكات المؤسسية وغياب التوثيق الأكاديمي والتقييم المستقل لأثر هاته التظاهرات،وكذلك ضعف دمج المكون الثقافي في الرؤية السياحية الجهوية العامة. وقد أشار المسرحي عبد الحميد فنيش سنة 2021 إلى أن المسرح في المغرب لا يزال مهمشا مؤسساتيا، رغم دوره المركزي في التنمية المحلية. 3.السياحة الثقافية والمسرح كرافعة تنموية: في بعض الدول صارت الممارسة المسرحية نماذج ناجحة لا لشيء إلا لأنها وظفت مهرجاناتها المسرحية في خلق هوية سياحية خاصة ومتفردة عالميا. كمهرجان “أفينيون” بفرنساو”ادنبرة” باسكتلاندا.ومحليا يمكن الاستفادة من هذه النماذج عبر بلورة رؤية محلية شاملة تراهن على المسرح كرافعة تنموية وذلك من خلال ثلاث تقط على حسب الحصر.أولا إدماج مهرجانات المسرح ضمن استراتيجيات جهة طنجة تطوان ااحسيمة للسياحة المستدامة.ثانيا تشجيع البحث الأكاديمي حول أثر المهرجانات على الاقتصاد الثقافي وثالثا خلق بنية تحتية ثقافية حاضنة من مسارح ومراكز عروض وفضاءات مفتوحة. 4- من النموذج إلى الاستراتيجية رهان التربية الجمالية على الشباب والهوية المسرحية: تلعب المهرجانات المسرحية دورا مهما في تربية الذوق الفني لدى الأجيال الشابة وتوفير فضاءات للتعبير والمشاركة مما يبرز قدرة الشباب على إنتاج أشكال مسرحية مبتكرة تجمع بين المحلي والعالمي وتتيح تفاعل الجامعات بل وحتى المدارس للتعاون والإنفتاح والتعلم بحيث يعيد المسرح رسم وصيانة الذاكرة الجماعية والثقافية ويخلق للأجيال القادمة وسائل للتحليل والتأويل ورسم معالم المسرح الثقافية الحديثة ليتجاوز الفعل الثقافي طابع الفلكلورية والموسمية لأنه يتطلب الإنتقال نحو تصور تكاملي و يدمج الفعل الثقافي والسياسة السياحية في صلب السياسات التنموية. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن تبني منهج تشاركي بين الفاعلين الثقافيين والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص يسهم في تعزيز جاذبية المدينة كوجهة ثقافية مستدامة. عموما مهرجانات طنجة ليست فقط عروض ترفيهية بل صيرورة ديناميكية لكتابة المعنى الثقافي للمدينة في زمن العولمة.ومن خلال استثمار هاته التظاهرات الكبرى تعيد طنجة صياغة موقعها كباب المغرب المفتوح إلى العالم وجسر التواصل الإنساني والفني.لذلك فإن الرهان المستقبلي يتمثل في تطوير رؤية مندمجة بين الفاعل الثقافي السياحي والمتلقي لتعزيز الاستدامة وترسيخ هوية المدينة في الذاكرة العالمية.اذ لا يمكن فصل مستقبل السياحة الثقافية بطنجة عن الدينامية الإقتصادية والإجتماعية التي تعرفها المدينة.فالمسرح بصفته لغة عالمية يمثل فرصة إستراتيجية لإعادة تأهيل صورة المدينة وتعزيز جاذبيتها.ولكن كل هذا وغيره يظل رهينا بإرادة سياسية واضحة وتخطيط ثقافي مندمج واستثمار طويل الأمد في الرأسمال البشري ولا يمكن ذلك إلا إن تم تفعيل تطوير قاعدة بيانات توثق أثر مهرجانات المسرح على الإقتصاد المحلي وتعزيز التمويل العمومي وتشجيع المستثمرين الثقافيين وإدماج التربية الجمالية ضمن المناهج التعليمية وخلق جسور مع التظاهرات المسرحية وتمكين المهرجانات من آليات الحكامة الثقافية والتقييم المستقل.

فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

