الرئيسيةأخبارمقالة: “رواية زنجايوب: أو حين يصير العبث مذهبا”

مقالة: “رواية زنجايوب: أو حين يصير العبث مذهبا”

رواية زنجايوب

لقد عرف الأدب العربي نصوصا كثيرة تجلت فيها الغرائبية والعبثية كتيمة مؤطرة وخاصية مميزة ومذهب فني، وما نصوص ألف ليلة وليلة وسير الملاحم وكليلة ودمنة وغيرهم  إلا دليلا على ذلك الاتجاه الذي سيتبلور ويظهر جليا في الإبداعات السريالية واللامعقولة خاصة في الرواية الحديثة التي تلقاها القراء بتفاعل نظرا للظروف الاجتماعية التي كانت تفرض هذا النمط من الأعمال خاصة بعيد الحرب العالمية الأولى التي ولدت كآبة لدى الإنسان الذي شعر بمكر أخيه الإنسان وبهشاشة الأخلاق والأعراف والمعاهدات أمام أطماع التوسع، ومن هنا ظهر فانز كافكا الممثل الشرعي لهذا الاتجاه ورائده في الأدب الحديث، حتى إنه غدا صاحب تيار يطلق عليه الكفكاوية نسبة إلى اسمه كافكا، والذي يتميز بطبائع عديدة نذكر منها السوداوية والقهر والعبث والسخرية.

إن العبث عند كافكا يتجلى في عمليه الروائيين خاصة ” المسخ” و”المحاكمة” وهو يبدو منهجا في الكتابة ونسغ في الوجود، فإذا كانت العبثية في الحياة تشير إلى لاعقلانية الكون وانعدام المعنى، فإن كافكا يؤكد هذه الفلسفة ولكن يغمرها بكثير من المتعة والتصوير اللذين يشيران إلى النمط الحقيقي لمواجهة مصير الإنسان وبؤسه، من هنا يولد كافكا شخصياته التي لا تشبه الشخصيات كغريغور سامسا في رواية المسخ والتي يؤكد فيها على الانفكاك من سلطة الأب بذلك التحول الطارئ الذي تعرض له فخلصه وورطه في الآن نفسه، مشكلا ثنائية عبثية ظلت تحكم العمل وتولد ثنائيات وأحداث قد تبدو لا معقولة ولكنها تولد معنى يفسر عبثية الواقع بوجه من الأوجه.

لاشك أن كاتبنا إبراهيم أكراف تلمظ طبيخ كافكا، فالمتأمل والقارئ لعمل “زنجايوب” يلمح ذلك جليا في تشكيل العوالم السردية التي صاغها باحترافية واقتدار، فهو وإن  كان متأثرا بالكافكاوية، فقد استطاع أن يبزغ لنا عملا تجلت فيه عبثية الوجود الإنساني والصراع والتهميش في الجنوب المغربي، وخاصة في مدينة طاطا  المندورة للنسيان والتي لا تذكر إلا مرتبطة بالاحترار وحرائق الواحات والمناجم التي تستغل ليل نهار دون عائد على التنمية المحلية،  إنها المدينة الصحراوية التي تقع في الحدود مع  الجزائر بما لها من جوار وما عليها من دعم المرتزقة…

إن قيمة عمل “زنجايوب” تتمظهر في كونه لا يشبه كثيرا من الأعمال إذ نحن ركزنا على بعدين أساسيين، وهما:

أولا: هيكل العمل الذي يتخذ من العبث  واللامعقول والتشظي منهاجا لكسر أفق انتظار القارئ للأعمال الروائية المغربية.

ثانيا: التوظيف الجمالي لأمكنة الجنوب المغربي بثقافته وأزيائه وأعرافه.

الأمر الذي يحقق في نظرنا أصالة العمل الروائي عكس العديد من الأعمال التي تنسخ عوالمها ولغتها من أعمال عالمية أخرى دون بصمة تميزها والتي تغرقنا عادة في ذكر الهواجس وأحاديث النفوس والخيالات دون الأحداث، وهذا ما نعتبره قصورا في بعض الأعمال المعاصرة إذ الروائي المقتدر هو من يستطيع تقديم أفكاره ورؤاه للحياة بواسطة الأحداث والشخوص والأمكنة.

تبدأ الرواية بتقديم وسمه الكاتب بما قبل السرد، وضعه لتهيئة القارئ لقراءة عمله المختلف مشيرا له بأسلوبه الخاص: ” في إمارة زنجايوب المفاهيم مختلفة، وكلام العقلاء صيحة في واد، استقالوا ورجعوا خلف الستار يستمتعون أحيانا بما يأتيه الأغبياء الأدنياء ويتألمون أحيانا لحال الوطن”.

ثم بعد ذلك شرع في أحداث روايته التي تنطلق من قرية “إسافن” التي كانت تقام فيها ليلة غنائية ساحرة ينتظم فيها شعراء أسايس إلى حدود الفجر، ومع ارتفاع الآذان لصلاة الصبح سمع صوت مرعب فتحسسه الناس إلى أن ظهر المخلوق العجيب المتلون الممسوخ، الآدمي الحيواني، فصعق من صعق من الحضور، واستعاذ من استعاذ منهم، وبعد حين، بعد مداولات بشأنه وإخبار السلطات في القرية وطاطا، حار الناس في شأن هذا المخلوق الغريب الذي سيسميه الكاتب “صاصا” ويسميه أحد الساكنة  لزنجيته ” زنجايوب” على وزن “صبر أيوب” بعدما ضاق الناس به وبهيئته المخيفة وببلادته وثقله على النفس، وهو يماهي ويشاكل بطلا آخر يسير في خط أخر من خطوط الحكي في الرواية وهو “احسينه” من هذه البداية المفاجئة والمخاتلة ينطلق السارد في إبراز تناقضات المجتمع المغربي والجنوبي على وجه الخصوص، فبين قائل بقتل صاصا أو استغلاله في تحريك مطحنة الزيتون بدل الحمار، يتوغل صاصا في لاشعور القبيلة ويتحول ويجد في مداراة الناس له فسحة للتحول إلى أن أصبح أخيرا مديرا في مؤسسة تعليمية.

صاصا أو احسينة إنهما صورتان للطغيان الذي يصنعه المواطن المغربي بتراخيه أو بحسن ظنه وتجاهله للقانون مع تشبته بالأعراف البالية والخزعبلات وتراهات الشيوخ لا حكمتهم، فاحسينة كان شابا عاديا ولكنه في يوم من الأيام ادعى الجنون وخوفا من فضيحة القبيلة دارته على جنونه وجبرت خاطره،  لعله يعود إلى رشده، فتقدم سراج الدين وأحمد وعقدا له مجمعا لكي ينصبانه من الشرفاء كما كان يتوهم ويحلم، وما إن نصب وأعطيت له شجرة نسبه حتى نصب نفسه أميرا على عين الماء مورد القرية، وغدا يستعبد سكان القبيلة، ويمارس عليهم جنونه وعظمته، فأملى عليهم أوامرا ما أنزل الله بها من سلطان، كتغيير أوقات الصلاة، وطريقتها، وقبلتهم، ومناسباتهم وشعائرهم، وتقديسه وحمله على الأكتاف واستشارته في كل صغيرة وكبيرة، إن صاصا هو تتمة لطغيان احسينة الذي اختفى ذات يوم في ظروف غامضة بعدما أصابه المسخ، فبينما انتقل صاصا من الحيوانية إلى الآدمية فاحسينة انتقل من الآدمية إلى الحيوانية، هنا يلتقي خطا السرد اللذان يشكلان العمل الروائي مجملا، إننا بتتبعنا لشخصيات العمل سواء البطل صاصا أو احسينة أو أعضاء البرلمان الذين قرروا بعد جهد جهيد واجتماعات بدمج صاصا في الحياة اليومية بإرساله إلى فم زكيظ مديرا نكتشف عبثية الحياة المعاصرة، التي تعكسها الرواية بعوالمها القائمة على المزاوجة بين الواقعي والمتخيل، إنها بحث عن المعنى وسط اللامعنى، فبينما يرسم الكاتب صور شخصياته المتخيلة فهو يومئ إلى شخصيات نحتك بها كل يوم ويمكن لنا إبراز ذلك كالآتي:

صاصا: الموظف البليد الذي وصل إلى منصبه في ظروف استثنائية وغامضة.

احسينة: المواطن الذي يتجبر بمجرد انتخابه وتحميله المسؤولية.

نواب البرلمان: نواب الأمة أصحاب المصالح، الذين يخضعون إلى الأجندة الخارجية.

سراج الدين وأحمد: هم عين السلطة والأعيان الذين يفتقدون للكفاءة.

مي عيشة: المرأة المتبصرة التي يزورها الناس لأخذ البركة والاستشارة.

القايد حماد: القائد الذي يتفادى الاصطدام ويتردد في إصدار الأوامر ما لم تأتيه من الجهات العليا.

سكان الدوار: عموم الشعب.

ولا يقف التصور العبثي عند الشخصيات فاختيار الأمكنة وتوظيفها يعكس كذلك المنحى العبثي الذي اختاره الكاتب لروايته، فرغم قصر العمل الروائي مقارنة مع بعض الأعمال المعاصرة، نجده يحتوي ويحفل بمجموعة من الأمكنة الرئيسة وأخرى ثانوية، أغلبها أماكن منتقاة من بيئة الجنوب؛ إسافن، طاطا، فم زكيظ، الدوار إلا أن توظيفها مبوثق بالغرائبية، فالأحداث الواقعة في هذه الأمكنة المفتوحة في الغالب ترسم في ذهن المتلقي أمكنة خيالية كأن لا وجود لها في أرض الواقع، أما عن الأمكنة المغلقة كبيت القائد وزاوية سراج الدين ومنزل الشريفة مي عيشة فالأحداث الواقعة فيها أقل عبثية وغرائبية وإن كانت أغلب الأحداث تحرك منها وأغلب القرارات تتخذ منها، وعلى رأسها قبة البرلمان الذي بث في قضية “صاصا” وقرر بإدماجه في المجتمع نظرا لحالته شبه الإنسانية، والانخراط في المعاهدات الدولية ومناسبة تنظيم المونديال التي تستوجب تعاملا خاصا مع حالات الجنون والحمق.

وعموما وكي لا نطيل في هذا التقديم، فإن رواية “زنجايوب” رواية نوعية موضوعا وبناء، فأما من حيث الموضوع فقد تناولت تناقضات المجتمع المغربي، وضعف نخبه السياسية وهشاشة مواطنيه وخبث مسؤوليه الذين وصلوا إلى مناصبهم بالصدفة، ومن حيث البناء فقد اعتمدت تداخل الأصوات وتنوع زوايا الحكي، واعتماد السخرية والتهكم وسيلة إلى شد القارئ وتماسك العمل، إنها بكل بساطة فوضى خلاقة فوضى تليق بالعبث الذي أصبح أسلوب حياة.

منير المنيري، كاتب من المغرب.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *