ما العمل؟؟ من ينقذ البلاد والعباد؟؟ من فسادٍ تغوَّل في جميع القطاعات حتى بات يُسوِّق لثقافة جديدة ومُسمّيات مُضلِّلة لا تمتّ للمضامين اللغوية ولا للتعبير الحقيقي بصلة؟ من يضع الإصبع على مكمن المرض؟ أين المعالج الكفؤ؟
نحن مقبلون على مرحلة جديدة في وطننا، ومعناها بلغة السياسة “ولاية جديدة”، لكن من يُشِير بصدق إلى ما تغرق فيه البلاد من أوهام تُسوَّق باسم مصلحة الوطن، في الوقت الذي أُثقل فيه كاهل المواطن بالغلاء المعيشي، وقُدّم للشباب أفيون “السوشيال ميديا” بنجومها القدوة؟!
أيها السادة ، نعلم أن القليل يتابع الرأي، خصوصًا الرأي الصالح الصادق. ولكن، أين أنتم والوطن سُلِّم لمن يعبث به، بينما التصفيق لهؤلاء بات يُمارَس حتى من داخل المؤسسات الرسمية نفسها؟ المؤسسات التي من المفترض أن تقدم نتائج إيجابية تبرّر وجودها لا أن تُصفق في مشهد يُشبه المهزلة الأخلاقية.
في كل موسم سياسي جديد، تعود لنا النغمة المكرّرة: “نحتاج إلى ضخ دماء جديدة” داخل الأحزاب والمؤسسات والإدارات. عبارة أصبحت مستهلكة حد السخرية، تُردّدها النخب الحاكمة وكأنها وصفة سحرية للإنقاذ، بينما في الواقع، تُستخدم كستار كثيف لتجميل مشهد أكثر عطبًا مما نتصور.
لكن السؤال الذي نادراً ما يُطرح هو: هل المشكلة في سن “الدماء” أم في فسادها؟
الواقع يُظهر بوضوح أن المنظومة لا تبحث عن الشباب الصالح، بقدر ما تسعى إلى إعادة إنتاج نسخ شابة من الفساد نفسه، بواجهات عصرية، بأفكار مسمومة في عبوات حديثة، وابتسامات براقة مهتمة بـ”سيلفيات” مواقع التواصل أكثر من اهتمامها بالإنجازات الفعلية على أرض الواقع.
إنها منظومة قد شاخت، لكن بدل أن تموت، هيّأت لنفسها أسنانًا جميلة، تبتسم أمام الكاميرات، وتعضّ من الخلف كل ما تبقّى من مؤسسات وقيم.
أولئك الذين نعرفهم جيدًا… يتقدمون الصفوف اليوم بأظافر ملوّنة، وأنياب لامعة، بعد أن درّبتهم آلة الفساد القديمة على فنون الظهور المزيّف، والتسلل الهادئ إلى مراكز القرار.
اليوم، لم يعد الفساد يتجول على هيئة مسؤول شائب متورم من كثرة النهب، بل صار يرتدي “تيشيرت” حرية، يتحدث بلغة الابتكار، ويحاضر في “الحكومة الرقمية”. إنه الفساد ذاته، لكن في نسخة أكثر حداثة، وأكثر خطرًا… لأنه يجيد التخفي خلف شعارات التمكين والشفافية.
لقد أصبحنا نرى شبابًا يعتلون المناصب بسرعة البرق، وبدون أي سيرة ذاتية تذكر… حتى بالكذب كما اعتدنا في السابق!
لم يعودوا بحاجة إلى اختلاق شهادات أو تضخيم تجارب، فقد باتت الانتماءات والعلاقات تكفيهم للوصول إلى مواقع القرار دون المرور عبر أي معيار جدي للكفاءة أو النزاهة.
وهنا يطرح تساؤل جوهري نفسه بإلحاح: هل يُعد هذا “ضخًا للدماء الشابة” فعلًا في سبيل المصلحة العامة، أم أننا أمام عملية شلّ متعمدة لأدوار مؤسسات بأكملها، مقابل تضخيم مجموعات منتقاة تخدم أجندات انتخابية أو شخصية؟
حين تُسخّر أدوات الدولة وبرامجها ومواردها لدعم شبكات محسوبة على تيارات أو أحزاب معينة، تحت غطاء التمكين، فإننا لا نعيش إصلاحًا مؤسساتيًا، بل حملة استباقية ممولة من المال العام، باسم الشباب.
لقد تحول كثير من برامج “تمكين الشباب” إلى مجرد آليات لتفريخ أدوات ناعمة تحركها المنظومة نفسها. هؤلاء ليسوا مصلحين، بل مؤهَّلون لأداء أدوار محددة داخل مسرح الفساد المجدّد. تم تدريبهم لا على المقاومة، بل على التماهي. لا على قول “لا”، بل على ابتكار طرق جديدة لقول “نعم”.
في هذا المناخ، يُقصى الشباب الحقيقيون. أولئك الذين يحملون فكرًا حرًا ومشروعًا نزيهًا للتغيير، يُنظر إليهم كخطر لا كأمل. يتم تحييدهم في الهامش، أو دفعهم للهجرة، أو سحقهم تحت ماكينات التلميع الإعلامي التي لا تقبل إلا الولاء، لا الجرأة.
فهل يُعقل أن ننعش جسدًا مريضًا بضخ دماء مسمومة؟
وهل يُنتظر من شبابٍ فاسد أن يقدّم شيئًا غير نسخة مطوّرة من جيل فاسد سبقه؟
بل ما نشهده اليوم هو ببساطة: تجديد لبطاريات الفساد عبر شباب أكثر مرونة، أكثر قدرة على التحايل، وأكثر تمرّسًا على الخطاب الزائف.
ما يسمى بـ”ضخ دماء جديدة” تحوّل إلى مجرد آلية لإعادة تشغيل منظومة مأزومة بأدوات أكثر إقناعًا، لكنها بنفس الجوهر القديم. لذلك، فحين نسمع مجددًا عن “تمكين الشباب”، علينا أن نسأل:
أي شباب؟ وباسم أي مشروع؟ ولمصلحة من؟
فالشباب لا يصنعون التغيير بمجرد كونهم شبابًا، بل بقيمهم، بمواقفهم، وبحجم رفضهم للتورّط في لعبة التزييف. لان الشاب ان هياته صالحا وقدمته كدماء جديدة لبعث الحياة والقوة في جسم انهكه الفساد سيحسب لك أجرا عند الله ؛وسيعرف هو كيف يجيب عن سؤال ربه : شبابك اين أفنيته ؟ أما ضخ دماء شابة فاسدة، فليس سوى عملية إنعاش لفسادٍ بدأ يشيخ… لكنه لا يريد أن يموت.
الدكتورة نزهة الماموني


لقد صدقت استاذتي وفقك الله
التمكين الحقيقي يبدأ بالنزاهة، لا بالولاء.