كنت في جولة استطلاعية داخل أحد المعارض الجهوية، أتنقل بين الأروقة كعادتي، أحاول أن اجد ما يعيد لي الامل في الثقافة ، والاعلام ومن يشرفون على هذين القطاعين الهامين اللذين أن شرفا شرفت بهم الحضارة ،وان اهينا هزلت بهم قيم حضارة بأكملها .وكنت اجتهد في ان ألتقط ما يلفت العين ويهزّ العقل. لكن صدمتي كانت اقوى من افق توقعي ،لأنني اكتشفت شيئا رهيبا يهز ركائز الاعلام والصحافة والثقافة بصفة عامة :
في ركنٍ ظاهره إعلامي وباطنه تسويقي، وقفت أمام مشهد لم أستطع أن أمرّ عليه مرور الكرام: شخص يوقّع “تواقيع” في فضاء يُحسب – ظلمًا – على الصحافة، لكنه لا يملك من أدواتها سوى بطاقة، وكثير من الثقة الزائدة، والشعور الداخلي بالذل والمهانة ،حيث استغرب كيف يمكنه أن يحترم نفسه قبل ان ينتظر احترام الآخرين …
نعم، تواقيع!
وكأن الصحافة أصبحت مهنة تُزاوَل بالحبر والصورة، والتبزنيس وبيع كل شيء لا يباع عند الشرفاء والمهنيين الحقيقيين حتى بتعذيب الجسد ،لانها مهنة الصدق بالخبر والثقة في التحقيق.
عندما افقت بصعوبة من صدمتي ،تساءلت في صمت:
كيف يرى هذا الشخص توقيعه؟
هل يراه وسامًا صحفيًا؟ لانه يتوجه للعدسات مزهوا بنفسه !!!
أم أنه، وهذه هي الحقيقة التي يكابر في تجاهلها ودون أن يدري، يوقّع على تنازل رسمي عن آخر قطرة من ماء وجهه؟!!!!… كيف يستطيع هذا الشخص ان ينظر الى وجهه في المرآة وهو يقبض ثمن بيعه لمصادره كصحفي يسيئ لمن قتلوا تعذيبا ولم يفصحوا عن مصادرهم !!!!كيف يبيع مصادره – من سلّموا له أسرارهم على ثقة – بثمن توقيع، وربما بصورة مع مسؤول أو بنظرة عطف من “صاحب شأن”.
هكذا تُداس القيم، وهكذا يُصبح التوقيع تذكرة عبور نحو السقوط.
ذلك النوع من الأشخاص يُمارس كذبة متقنة: يبدأها ببطاقة، يُروّجها بصورة، يُطوّرها بتصفيق بعض المصفقين، ثم يصدقها في النهاية. وما يدري أن توقيعه ذاك ليس سوى شهادة سقوط أخلاقي أمام مرآة المهنة. ووجدت لسان حالي يصرخ بحرقة اكبر من التي دخلت بها المعرض امني نفسي بالامل او بصيص امل في الصحافة والاعلام والثقافة وهل بقي منها ما يستند اليه الوطن ؟؟؟
الصحافة – يا سادة – ليست ركنًا في معرض، ولا توقيعًا في كرّاس، ولا “مانشيتًا” ملوّنًا على حساب المعنى. والتوقيع عند من يقدره هو مسؤوليتك امام مهنتك وماذا قدمت لها من مفيد او إضافة وليس ثمنا لبيعك لمصادر من ائتمنك عنها ….
الصحافة نار داخلية، تحترق لتضيء وليس نار تحرق المصداقية وتتواطئ مع الفساد. فمن لم يكن مستعدًا للاحتراق، فليترك الموقد لأهله. الشجعان الذين يتبركون بنار سيدنا إبراهيم عليه السلام ويقولون ايتها النار كوني بردا وسلاما على اجسادنا وقوها لتقاوم الفساد بكلمة الحق .
أما أنصاف الصحفيين، وأنصاف الأقلام، وأنصاف العناوين… فهؤلاء مسؤولون عن كارثة اسمها: تمييع المهنة ، وسوف يدفعون الثمن من نهاياتهم البئيسة ، ويكفيهم أنهم يعيشون في غربة عن أنفسهم .
ويبقى السؤال:
كم من توقيعٍ مزوّرٍ يُسجَّل باسم “الصحافة”؟
وكم من قلمٍ شريف اختار الصمت لأن الساحة لم تعد نظيفة بما يكفي للكتابة؟ لان من لا يستطيع بيع ماء وجهه اصبح بدون كفاءة وبدون أهلية لا للتوقيع ولا للتكريم ،في زمن هزلت فيه المواقف وبيعت القيم .
الدكتورة نزهة الماموني


كل الاحترام والتقدير دكتورة نزهة الماموني
مقال صادق ومؤلم يفضح تدهور القيم عند بعض الإعلاميين، حيث تحوّلت الصحافة من مهنة شريفة إلى وسيلة للادّعاء والربح السريع. صرخة قوية في وجه من باعوا المهنة بثمن رخيص.
بالتوفيق دكتورة نزهة.