لما كان في طريقه إلى المقهى، كان والده يشرب كوب عصير عند محل “عصائر زعزع”. وضع يده على كتفه، التفت والده إليه. هز رأسه كما يفعل دائما.
قضى مساءه هنالك. فتح باب البيت، كانت ثمة ستارة وضعت حديثا تسد مدخل البيت كله. كان نور المصباح ينفد من باحة الدور السفلي إلى المدخل الذي رفعت أريكة منه. كان ذلك النور ينعكس على تلك الأريكة ويلقي على الحائط ظلالا تكعيبية.
خلف الستار كان والده يرقد جثة هامدة، تنتظر مراسيم الجنازة لتوارى التراب.
أيعقل أن يموت الواحد منا هكذا بين العصر والعشاء.
بدا أن ملامح الميت اسودت قليلا…
عندما يحدث أمر جلل مثل الموت، يصبح الميت في منزلة يقع بين المنزلتين، فلا هو في الحاضر ولا هو في الغد.
حتى الأمس لا يظهر من هذا الموت شيء، لم يحضر منه شيء. فالروح إدا خفت موازينها صعدت إلى السماء.. روحه الآن معلقة في أزقة السماء… لكن، أتراها صعدت؟.
هل هو حزين هذا الميت، أم أنه يلزم الصبر؟ وهل يحس بشيء ما؟
اقترب من الجثة الهامدة. انحنى عليها وقبلها بقوة، وضغط بشدة. ولما رفع شفتيه ارتشف معها طعم العفونة.
يحدث، أحيانا، أن يتذكر ذلك الطعم، ويؤوله تأويلات شتى.
لما رفع رأسه من القبلة القوية، بدا له وجه الجثة وكأنه تأثر بذلك الضغط. كاد أن يقول لهم إنه مازال حيا.
كان أفراد العائلة كلهم في الغرفة الكبيرة. جلس إليهم وكانوا كلهم يحرصون على أن لا يتحدثوا عن الموت أو الرجل الميت.
لاحظوا أنه صامت، والعهد به أنه متكلم دائما. استحثه أحدهم في أن يتكلم.
قال أحمد مخاطبا إخوته:
كلنا درسنا في ذات “التلاوة”، أتذكرون درس “الاتحاد قوة”.
منهم من أجاب بأنه يتذكر، و منهم من نسيه.
سأل أحدهم:
وما المطلوب والمغزى من درس التلاوة .
رد عليه:
هذا كلام موجه إلى إخوتي
ثم أردف:
اسمعوا يا إخوة.
لما حضرت الموت أحد كبار قادة الحروب القديمة استدعى أولاده كلهم، ومنح لكل منهم رمحا، وأمر أن يكسر كل واحد منهم رمحه. صدعوا للأمر وكسروا رماحهم، ثم أحصاهم. وطلب منهم ضم عديد الرماح إلى بعضها وحزمها، وأمر كل واحد منهم أن يكسر حزمة الرماح. لم يتمكن ولا واحد من تكسيرها.
هكذا أنتم، قال القائد، فإذا كنتم منفردين يسهل كسركم، وإذا اجتمعتم فلا يمكن ذلك. فابقوا مجتمعين إلى الأبد.
ذكرتكم إخوتي بهذا الدرس، أو بهذه القصة، لأقول لكم: لقد حان الوقت لنجتمع.
ظن أن الرسالة قد وصلت إلى مسمع الإخوة وأنهم سيناقشون معه شكل هذا التجمع. لكنهم قالوا:
سبحان الله في هذا الإنسان، يتفلسف حتى في الموت.
تدخل أحدهم قائلا:
غدا نبدأ إجراءات تقسيم الإرث، وليذهب كل منا إلى حال سبيله، ودعونا من هذه الفلسفة.
نزار القريشي – المغرب

