الرئيسيةإبداعقصة: مدرس في الأرياف

قصة: مدرس في الأرياف

رجل مغربي وحيد في فصل دراسي مهجور، يجلس بتعب وهو يدخن سيجارة.

كان يحمل كل الصفات الجميلة التي يمكن أن تخطر على قلب بشر. فارع القامة، عريض المنكبين، وسيم الملامح، عذب الابتسامة. وكان الكل يحبه، نساء الحي وبناتهن وأطفالهن. إلا هو لم يسعفه ذهنه في أن يحب ذاته.
لم يتم تعليمه الجامعي- قطعه – التحق بمدرسة تكوين المدرسين، ليتخرج من بعد عامين. حينها التحق بفرعية تابعة لمجموعة مدارس قرى قبيلة “ابن احمد”.
المدرس أعزب، لم يستطع كل المدشر أن يكتري له بيتا كما يفعلون مع المدرسات
إنه أعزب.
كان عليه أن تكون الفرعية كلا في كل، مقر عمل، مأوى ومجلسا. ومع مرور الوقت، تكيف المدرس مع حياته الجديدة، تماهى معها وتودد إلى السكان، تقبلوه ومنحوه كل شيء إلا المأوى. كان عليه أن ينام وحيدا. هو الذي كان ينام في بيت أسرته، وإلى جانب إخوته. وكان دائم التواصل مع أصدقائه. واليوم، جفاه النوم ولم يجد إليه سبيلا.
خبير في المدشر كتب له أول وصفة دواء لمن لا يستطيع نوما.
المدرس من قبيلة المدخنين. سف أول سفة من لفافة الحشيش وابتلع الدخان، مرت في الرأس نشوة، متعة، هدوء، فدوخة لم يعهد لها مثيلا من قبل.
توالت جلساته مع الخبير العارف بأحوال “القص”[1] وأنواع الحشيش ومضاربها وبقعها، صفائها وكدرها.
مع مرور الوقت فارقه الأرق، وأصبح شخصا مستيقظا زاده الخيال.
كان المدرس بمجرد ما أن يلف لفة الحشيش ويدخنها يحلق في عوالم تعجز مخيلات هوليود وبوليود وباقي مخرجي العالم على اختلاق مثلها.
عوالم كالأفلام، حيث تبقى المعالم والإشارات وتضيع التفاصيل. قنع المدرس بما تكرمت به الحشيش من المسرات الحافلة بما فوق المنى.
ستة عشر عاما عبرت في الخيال… انتقلت الوالدة إلى عفو الله ورحمته. ثم حثه الأهل على ضرورة الاقتران بامرأة، وانتخبوا له إحداهن.
فقد المدرس صلته بالعالم، وما يجري فيه. وقد تجده يدلي برأيه في هذا الأمر أو ذلك بالقول لا بالفعل.
حين اتصل بزوجته المستقبلية بدا له تفكيرها غريبا، بقدر ما بدا لها تفكيره أغرب.
تكرر الحدث عشرات المرات مع غيرها من الفتيات، وما من أنثى تمكن من أن يتواصل وإياها.
المدرس يريد أن يكون العالم وفق قدر سطره، والعالم ماض في مقاديره. كان في مقدوره أن يكون أبا، لكنه ضل طريق كل المدرسين. تفكيره يميل به إلى الانفصام. وخياله دفعه إلى أن يجنح نحو قدر آخر.
جاهد كثيرا من أجل العودة إلى المدينة، أي مدينة! وانتهى به الأمر في قرى قريبة من المدينة، لكن مستوى معيشها أقل من قرية ابن أحمد.
هنالك كانت حصته السنوية من الحشيش موفورة. إنه مدرس، وكل ما يريده المدرس يحصل عليه. يكفي فقط أن يرد السلام ودعوات الأفراح.
انتقل إلى قرية عين الحصن. وهنا فقد نصيبه السنوي من الحشيش. صار عليه أن يقتني الكمية التي تسمح له ببلوغ النشوة والمتعة. لكن تكلفة الحشيش صارت مكلفة له، بالنظر إلى راتبه الشهري المتواضع.
في قرية عين لحصن حط قدمه على الأرض. فكر في أنهم يلقون على الأرض بذورا، وهاهي البذور تتحول إلى حشيش بعد التصنيع. لكنهم لا يمنحونه شيئا. قلت فرص الانتشاء بالحشيش، فتراجع خياله، وبدأ يتساءل عن المصير وعن المستقبل. تشوش ذهنه وانتابه الهذيان. في البدء كان يكتمه. وفي النهاية أطلق له العنان حتى لا يصاب بالجنون.
أطلق العنان للكلام. تكلم عن الله، عن مناهيج التعليم، الفلسفة، الفكر، الأديان، الخرافات، اللغات…
كان يتكلم عن كل هذه الأشياء دفعة واحدة. انعدام وحدة الموضوع بالنسبة إلى العامة، وتعدد المواضيع مع تداخلها، تواصلها واستمرارها، مع عدم وحدة الموضوع، جنون، جنون… أصبح مجنونا.
لكنه، وفي كل مرة يتأكد فيها من جنونه يعود ليؤكد أنه ليس بمجنون، ولكنه غضب ينتصر للحق والخير والجمال لا غير.
في غياب النشوة فقد المدرس جاذبية الحياة. لم يعد مدرسا، بل صار ساعي بريد يحمل شواهد الأطباء النفسانيين وغيرهم إلى الإدارة، ليؤكد أن جهازه العصبي منهك، نفسيته منفصمة ما بين رجل أتى إلى العالم ليقيم الحق وينشر الخير والجمال، ورجل لا يفعل أكثر من أن يرشف من فنجان قهوة وينفث الدخان في الهواء، ويفكر في الحق والخير ومواقع الجمال.
تعرف إلى مهووس مثله لم تسعفه إمكانياته في ارتقاء مدارج النشوة الكبرى. لا تزال به بقية من عقل، ويبدو كما لو كان غير قابل للتفعيل. ظلا لشهور يتقاسمان الرغيف والقهوة والسجائر وحب الحق والخير ومواقع الجمال.
ذات يوم أغبش من مساءات مقهى الحشيش أسر لصديقه الجديد بأنه وقف اليوم على إفريز سطح دارهم، وفكر في إلقاء نفسه من هنالك لإنهاء فضيحة اسمها الحياة، لكنه لم يستطع.
همس له المهووس: كل شيء ههنا -وأشار إلى الرأس- في المحاولة الثانية اقفز، كما تقفز في رحاب عمق البحر.
بضعة أيام بعد التوجيه المميت، وبينما المهووس في انتظار مجيئه، دخل كبير حشاشي المكان، وأعلن في من حضر: “لا إله إلا الله. أيها الإخوان، المدرس ألقى بنفسه من الطابق الخامس، وقيل إن رأسه انشطر إلى أربع قطع، ولا حول ولا قوة إلا بالله”.

نزار القريشي

[1] – القص هنا بمعنى تحويل نبتة الكيف إلى مسحوق من أجل تعاطيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *