الرئيسيةأخبارمقالة: فندق دمَّاحة؛ عتبات في حركيّة المكان ونسقية البناء السردي

مقالة: فندق دمَّاحة؛ عتبات في حركيّة المكان ونسقية البناء السردي

فدوى الجراري

شيد شرف الدين عكري بناء سرديا أضاف من خلاله لبنة في صرح الرواية المغربية، حمَّل إصداره الجديد الصادر عن دار المصورات للنشر ب“فندق دماحة”، واستقى موضوعه من سراديب ذاكرة الماضي السحيق الذي عاش ويلاته عبيدُ المغرب متجرعين مرارة سوط الأسياد، ولقد خص فندقه هذا بأربعة أجنحة؛ لكل منها إطلالة مختلفة على قضايا إنسانية واجتماعية، يمكن أن تشكل لوحدها موضوع نص سردي متكامل، وإن كان جناح دماحة الأفخم والأضخم من حيث المساحة والبنية السردية.

اختار عكري لبنية روايته إيقاعا سريعا، ينقل به القارئ من جناح لجناح دون أن يجعله يأخذ وقتا مستقطعا، إلا بعد أن ينهي جولته بين الصفحات وطي الغلاف، وبدورنا جعلنا لورقتنا هاته عتبات نقف عندها حتى لا تكون جولتنا داخل الفندق جولة مار عابر، بل مارٌّ ذو أثر، يبرز أثرنا من خلال هذه الورقة، وأولى العتبات التي سنقف عندها هي:

* عتبة صورة الغلاف والإهداء

 فالروائي شرف الدين عكري انتقى لروايته غلافا أنيقا جذابا يغري نظر القارئ وهو يستمتع بالزخارف والهندسة التقليدية لمعمار الفندق الذي يعكس عراقة وأصالة المدينة مسرح الحكاية الأبرز، وصورته جاءت من داخل فنائه، حيث تتحد الأرض بالسماء لتكون شاهدة على ما تتضمنه الحكاية دون سقف يحدُّ تطلعات أبطالها، ولعل انعكاس زرقة السماء الصافية فيها تكسير للعتمة البنية التي تلونت بها جدران الفندق، زادها الظل عتمة تميل إلى السواد في إشارة من جهة إلى أن في الأفق دوما هناك الأمل، وأن شمس الصباح دائما ما تحمل دفئا يدغدغ المشاعر اليائسة، ومن جهة أخرى يحيل اللون الأسود الذي عكسه الظل إلى الظلم والذل والمهانة الذي تشهده الإنسانية في خفاء الزوايا المحجوبة عن الأنظار،  كما أن الفناء في مختلف المنازل العربية التقليدية التي تزخر بها المدن العتيقة بجماله وشساعته قد يكون مسرح فرح وبهجة (الأماسي التي يحييها سيد العابد لأصحابه) مثلما قد يكون مسرح تعذيب وتنكيل كما حدث مع دماحة، ورمزية الفندق في هذه الرواية تكمن في ذلك الإرث المادي الشاهد على تاريخ منصرم، لكنه ممتد في الزمان، يربط الجيل الحالي بإرث الأجداد بكل ما فيه، ودليل قولي ما جاء في ص262 من الرواية “بقي أن أسألك عن سبب تسمية هذا المكان بفندق دماحة؟ من أين جاء هذا الاسم؟” وبالإجابة عن هذا السؤال تُبْقِي حكاية المكان وأشخاصه متوارثة إلى الأبد.

والرواية جاءت مهداة “إلى كل الذين أجبروا على عيش حياة لا تشبههم…” فهذا الإهداء يحمل رمزية عميقة جدا، وكأن الكاتب يخاطب أولئك القراء الذين حكمت عليهم محكمة الأقدار أن يعيشوا خارج السرب الذي يتوقون أن يكونوا فيه، فتجدهم دائما يعيشون في حالة اغتراب، بنفسيات مضطربة ومشوهة متصارعة بين ما تتوق إليه دواخلهم وبين تقبل ما يُفرض عليهم من العوالم الخارجية، ولأن فعل الإجبار غالبا ما يفرض من سلطة علوية على الأدنى والأضعف فيكون الفرد عاجزا عن اختيار ما يريد ونبذ ما يراد به، فيقود العجز إلى التأقلم والاندماج كرها لا طواعية بشكل قاهر مع حياة دورهم فيها دوما يبقى على الهامش، ليخرج صوت دماحة بين ثنايا أسطر الرواية معبرا عن الثورة والسخط، حيث جاء على قولها “هناك نوعان من الناس، من يجري وراء ما يصبو إليه بأن يصنع الحافز لنفسه بنفسه، ومن يظل يترقب ظهور المُحفِّز وعندها يتحرك من أجل تحقيق مبتغاه” ص222، ودماحة كانت من الصنف الأول تسعى بقوتها وعزمها إلى تغيير واقع حالها، علمتنا أن الحياة بشرف وإن كان في ظل العذاب أهون من حياة الذل المغلف بالأمان والاستقرار (حياة دادا مسيعيدة أنموذجا).

عتبة سرديات العجز والخرافة

  أقف عند هذه العتبة على الصفحات 36 الأولى من الرواية حيث سلط الكاتب الضوء على قضية شائكة لم يُفَكر في علاجها الطبي إلا في الآونة الأخيرة، وإن كانت في الأغلب كفيلة بأن تُنزِل الإنسان من علياء مقامه – العلمي والفكري والمهني- إلى أعماق الجهل والضلالة في لحظات اليأس، ويتمسك بأي قشة فارغة لعلها تنعش ما قيده السحر حسب منظور اليائسين أو ما شله الخوف جراء تملك سرديات مغلوطة عن الليلة الأولى بين الزوجين، في حين يرى المتفائلون أن حلها عند الطب النفسي، وتكون الغلبة للكفة الراجحة عند صاحبها بما يضفي على كينونته صبغة الفحولة والكمال، فأن تطرق باب العرافات وتريق دماء القرابين السوداء على عتبة الأضرحة بأمل أهون من توصم بالعجز مكبل بأيادي اليأس في انتظار مفعول العقاقير التي لن تجدي شيئا في فراش بارد، هذا المستهل يحيل إلى أنه من الصعب أن ينسلخ الإنسان عن إرثه الثقافي الشعبي وعن التمثلات الراسخة في الذاكرة الجمعية المشكلة لهويته وانتمائه، ورمزية الشمهروش هنا كناية على أن أي إنسان يتوق أن تكون له قوى خارقة تعينه على تجاوز المحن التي لا يقوى على تحملها، حتى لو كانت هذه القوى وهمية تقوده إلى الضلال لا إلى النور، ومع البداية يكسر الكاتب أفق القارئ عندما يجد بأن بطلة الحكاية مجرد بطلة من ورق في نص روائي يوشك أن يولد في رحم مخيلة كاتب يبحث عن ضالته بين الأمكنة بما يؤثث إبداعه السردي، وينعش مداد قلمه حتى يفيض حروفا على الورق تحكي عصارة تنقلاته من هنا إلى هناك بحثا عن صيد سردي ثمين وإن كان على حساب الأسرة والعمل والصحة الجسدية والنفسية فشغف الإبداع أقوى من أي قيد، وهذا ما أشار إليه الكاتب وإن لم يكن في ذلك كناية عن نفسه، من خلال سخط الابن في الصفحة 36 من الرواية “النص مجددا! لم يمض على أوبتك من مراكش وجبال توبقال؟ ألا ترى أنك بحاجة إلى قليل من الراحة”، وهنا نشير إلى أن الكاتب يظل لديه هذا الهاجس في البحث عما يروض قلمه حتى لا يقع في الكسل الإبداعي وهذه النقطة من القضايا الضمنية التي تطرق الكاتب في روايته.

 

عتبة دماحة من مملكة الواحة إلى سجن القصر

 يتضمن محتوى الفصل الثاني من الرواية والذي لا يحمل عنوانا بارزا يبقى للقارئ أن يعنونه حسب منظروه، ومنظورنا يعنون الفصل ب “مملكة دماحة” حيث يسافر بنا عكري إلى واحات الجنوب الشرقي التي تكتسي فيها الطبيعة جمالها الأخاذ والتي لا يسمع فيها إلا صوت الطبيعة فقد برع في وصفها كأنها لوحة رسام ماهر، بما تعطي للإنسان سلطته عليها فهو سيد المكان، فتجري دماحة بكل حرية، بكل مرح ونشاط وراء نعزاتها في واحتها الخضراء الهادئة، والتي لا ينغص أرقها إلا احتباس منابع الماء عن أهالي الواحة، وهنا كانت المساحة الكافية لدى الكاتب لتسليط الضوء على تقاليد وأعراف أهل الواحة سواء في كيفية حل المشاكل وفضها – دور شيخ الخطارة- أو في كيفية تدبير وتسويق أكادير كناية على مخزن الواحة الجماعي – مهمة يتكفل بها الأمين-، وأيضا في اهتمامهم بإكرام الضيف والترحيب به حيث يقدمون له الخير وإن أتى هو بالشر، فالطيبة والبساطة التي يعيش بها أهل دماحة لم تكن لتجعلهم يُخوِّنون الغريب ولا الحرص من قريب، وهذا ما جعل دماحة وقرينتها ينعمن بالحرية التامة في التنقل وسط الواحة إلى حين صدور قرار يَدْلِف بهن إلى عتبة بيت الزوجية، غير أن سيناريو حكاية دماحة كان فيها منعرج بعد أن خان قوافل الرحل العهد إذ اختطفت دماحة الحرة لتصير سلعة تباع في سوق النخاسة، ورمزية الواحة في الرواية كفضاء مفتوح تحيل على الحرية، على التعاون والعيش المشترك في سلم وسلام، وأهم شيء ترمز إلى الخصوبة والعطاء، ذلك أنها مرتع إنجاب العبيد والخدم الذين يقدمون قربانا لرضا الأسياد في حواضر المدن، وقد أكد الكاتب على ذلك في صفحتة  107 قائلا: “وبما أن مراكش كانت هي المحطة الأولى في رحلة العبيد المجلوبين قسرا من الجنوب”.

وقد جاءت على أعقاب المنعرج الذي قلب حياة دماحة، حيث يسافر بنا الكاتب عبر المكان فمن واحة الجنوب مرورا بمراكش إلى دروب مدينة فاس العتيقة حيث ستدور أطوار الفصل الثالث من الرواية هذا التنقل المكاني في الرواية يحيل إلى الروابط التاريخية التي تعكس التحام شمال البلاد بجنوبه، وأن القضية هي قضية واحدة غير قابلة للتجزيء، وهذا مضمون الفصل الثالث الذي هو الآخر لا يحمل عنوانا بارزا، لكن على أعتابه تتشاطر فيه دماحة الأحداث بين جدران قصر السيد مع العبد مبيريك ودادا مسيعيدة وبقية البنات من الإماء بجناح الخدم التي لا يحصى عددهن يحملن أسماء مستعارة تفصلهن عن أصلهن ومكان انتمائهن، تجردهن من هويتهن وكينونتهن، تحت إمرة السيد عابد ولالة كنزة، لتبقى دماحة الوحيدة بينهن محتفظة باسمها لأنها أبت غير ذلك، في إشارة إلى قوة شخصيتها وعزيمتها على فك قيود الأسر من أعناقها، انطلاقا من قولها في الصفحة 151 “أنا حرة بنت حرة…، لن أركن ولن أقنع بهذا القدر اللئيم أبدا، ولن أكتفي بالتفرج”، وما اندماج دماحة بين أهل الديار وامتثالها للأوامر ما كان إلا جزء من خطة هروبها من سجن العبودية الذي فُرض عليها غصبا وعنوة، فهي تأبى على نفسها أن تكون صنفا من فئات العبيد، على شاكلة دادا مسيعيدة التي ارتقت في خفاء درجة أن تصير مجرد أم ابن السيد، ومبيريك المشرط الحناك معطل الرجولة، ومجريات الفصل الثالث وعلى خلاف الفصل الثاني تدور في فضاء مغلق وسط قصر سِيدْ العابد في رمزية ساخرة للسجن، فرغم جماله إلا أنه يخلو من الدفء، هو أشبه بقبر يتسع لأكثر من ميت حي.

وجهود دماحة في الانعتاق جعلها تبحث في أسرار أهل القصر لعلها تكون طوق نجاة ومفتاح الأصفاد التي تكبلها، وما قادها الفضول إليه كان أقوى مما يتحمله جسدها الضعيف  الذي تكبد ضربات السياط أمام مرأى أترابها العبيد وعلى إيقاع عزف السيد على عوده وهو يستشيط غيضا “كلكم عبيد لا يلائمكم إلا السوط، بل الكلاب أكثر منكم وفاء لسيدها” غير مدرك أن ما نسب إلى دماحة مجرد كيد نسوي لأنها كشفت المحجوب ولامست بأنف فضولها المحظور، ليتوالى العذاب بعد ذلك اغتصابا لحرمة رحمها البريء مع تعالي زغاريد المضطهدات تحت سلطة السيد، في حين انتهى بمبيريك بقتل نفسه تحت قوة جلد الذات لما آلت إليه دماحة بعدما كشف لها خبايا القصر وأسراره، لينتهي الفصل على حقيقة متجلية في أحشاء دماحة ما كل ما نصبو إليه ندركه، يوم قرر السيد أمام قوتها ونديتها فك قيود عبودتها وتحريرها حيث تشاء وجدت نفسها مرغمة مقيدة بما هو أقوى من أن تتخذ قرارا من أجل نفسها فقط، فالأمومة تقتضي التضحيات حتى لو تحملت لقب عبدة إلى الأبد.

 عتبة الهامشيات

 تعود بنا هذه العتبة إلى سياق نهاية المدخل وتتفرع إلى عتبات أخرى صغرى أشبه بدروب فاس ذات المسار الوحيد لتعالج قضايا أخرى على هامش القضية الكبرى للرواية، حيث سلط الكاتب الضوء على أزمة الأخلاق داخل النقل الحضري، قضية تشغيل الأطفال القاصرين بدل تعليمهم، النظرة الدونية التي يتعامل بها أهل الحواضر مع الوافدين من البادية، أهمية الحفاظ على الموروث اللامادي من صناعة تقليدية وإن اغتصبت حق الطفولة، وإن كان هذا الاغتصاب أهون من اغتصاب دماحة لحريتها وجسدها، ولم يبقى من ذكراها إلا فندقا تشهد دروب وأزقة فاس على الخبايا التي دفنت بين جدرانه.

ومع طي الصفحات الأخيرة من الرواية تتأمل صورة الكاتب بنظرته الثاقبة وقبعته ترى أنه تحت تلك القبعة هناك ترقد أفكار إبداعية يحجبها لحين أوان نضجها، ويضعها صاحب التحديات والرهانات مع النفس قبل القارئ في قالب مختلف عما أجادت به قريحته في سراديب الذاكرة وإلى مهلكتي وفندق دمّاحة

فدوى الجراري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *