قد يظن كثير من الناس أن الأدب والفقر متلازمان بدليل أننا نجد أغلب الأدباء فقراء لا يملكون من متاع الحياة ما يمتلكه غيرهم ، وهذه الظاهرة تكاد تكون قاعدة عند من ينظرون إلى الحياة بعين واحدة ! ، فالناظرون لاقتران الأدب بالفقر يستدلون بكثرة الأدباء المُعوزين في كل عصر ومِصر ، كما أنهم يرون أن قضية ” التكسب بالشعر ” في الأدب العــربي دلالة على شدة فقر الأديب وحاجته للمال ، ووقوفه عند أبواب الأمراء والحُكّام لينال من عطائهم ما يعينه على اعباء الحياة ، والشعراء الذين تكسّبوا بشعرهم كثيرٌ لا مجال لحصرهم في هذا المقام ، ومع أن هذه القضية تحتاج إلى نقاش مستفيض ، ويمكن أن يُنظَر إليها من عدة زوايا لا من زاوية الفقر وشدة الفاقة لكننا ألمحنا إليها بوصفها دليلا يتذرع به القائلون بفقر الأدباء وسوء حظهم .!!
والعجيب في الأمر أن أولئك الناظرين بعين واحدة – كما أسلفنا – والقائلين بضرورة اقتران الأدب الفقر يكادون يقنعوننا بمُسَلَّـــمـَــةِ عندهم مفادها ” كل أديبٍ فقير ” !! ، فإذا سألتَهم عن سبب هذا الاقتران العجيب يجيبونك بلسان الواثق بنفسه أو المغتر برأيه ” هذا حظهم ” ! أو ” الأدب حِرفة الفقراء والفقير لا يملك سوى التلاعب بالألفاظ والشكوى من صروف الحياة وظروفها ” ! ، أو ” الأرزاق بيد الله ” .!! ، وربما سردوا على سمعك أسماء عشرات بل مئات الأدبــاء الذين عاشوا عيشة الكفاف وحياة البؤساء .!
فإذا عكسنا السؤال لمثل هذه التصورات التي قد تبدو منطقية إلى حد كبير ، وقلنا : طالما أن كل أديب فقير ؛ فهل كل فقيرٍ أديب ؟ ما دمتم تجزمون أن الفقر لا ينفك عن الأدب بأي حال من الأحوال ؟! وهل الفقر سمة خاصة بالأدباء دون غيرهم أم أن ثمـَّــة َ أطباء ومهندسين وفلاحين وعلماء فقراء أيضا ويُعَــدُّون في طبقتهم لقسوة ظروفهم ولكثرة الرزايا التي مُنُــوا بهــا ؟! وهم بالعشرات وبالمئات وربما تخطوا الألوف إذا ما جمعنا سائر التخصصات في مقابل طبقة الأدباء ! .
وهنا يجد أصحاب هــذا الرأي الواسمين للأدباء بما ليس فيهم أن إلصاق الفقــر بالأدب أمـــرٌ يتطلب المراجعة ، وإعادة النظر ، وتفعيل الفكر النقدي والمنهج الاستقرائي الدقيق ، إذ إن الفقر والغنى لا علاقة لهما بالأدب والأديب ، والإحصاء في هذه المسألة لا يعدو أن يكون مجرد تخمين ورجم بالغيب! ، ولله درُّ أبــي تمــام إذ قـــال :
ينالُ الفتــى مــن عيشهِ وهو جاهلٌ
ويُكْــدِي الفَتَى في دَهْرِهِ وَهْوَ عَالِمٌ
ولَوْ كانَتِ الأرزَاقُ تَجْري على الحِجَا
هلكْـــنَ إذَنْ مِـــنْ جَهْلِـــهنَّ البَهَــــائِمُ
صحيح قد يكون كثير من الأدباء فقراء ولكن الأدب ليس سببا في قلة المال ولا قطع الرزق وإلا سنقع في تخمينات سخيفة وأحكام مُجحفة وتناقضات لا يستقيم معها التفكير السليم ، وسوف نجد أنفسنا مجبـــرين على إنكار أدب الموهوبين من الأغنياء بحُجة أن الغِنى والأدب لا يجتمعان .!! .
قد يرى بعض الناس مسألـــة اقتران الأدب بالفقــر -إن جاز لنا أن نعد هــذا الاقتران مُطَّــرَدا- من زاوية ٍ أكثر اتزانا وأكثر قبولا فيما يبدو لنا وهو أن أدب الأديب وإبداعه الدافع له هو الفقر وشحة المال، بمعنى أن الفقر مُحَفزٌ للأدب ومُوَلّدٌ للإبداع وموقظٌ للهمم والطاقات الكامنة في نفوس أصحابها، وهذا التصور ينطبــق مع مقولــة ” المعاناة تُوَلّد الإبداع ” ولعل هذا يجعلنا نشعر بقليل من الارتياح بدلا من اتهام الأدب بأنه قرين الفقر ورفيــق الحاجـــة!
ومن وجهة نظري فالمعاناة قد تولد الإبــداع فعلا ولكن ليست في كل حالة، كما أن كل مــن عانــى لا تقتضي الضرورة لــه أن يصيــر مبــدعــا.
قد يكون للحديث بقية إن تيسّر ذلك، ما لم فالسابق من القول يُغني عن بقية الحديث .!
يونس نعمان اليماني