قد يبدو العنوان لافتا حين يقرأ قارئ هذه السطور عن كيفية اغتراب المعجم وهو كتاب ! ، بينما قد يعي العارف باللغة حقيقة ذلك ، فكما أن الغربة بمعناها اللغوي هو البُعد والنأي عن الوطن ، كذلك كل منعزل عن محيطه أو من انعزل عنه محيطُهُ “غريب ” ، وقد تكون الغربة هنا مجازية لا يشترط فيها بُعد الديار أو طول المسافات ، فاللفظة التي لم يألفها السمع غريبة عن سامعها وإن تحدث بها آخرون ، والمعنى الذي يجهله شخصٌ ما عن مفردة بعينها غريبٌ لبُعده عن فهمه ، والإنسان الذي لا يعرف بنوه وأصحابه قدْرَه وما يفكر فيه أو يعانيه فهو غريب وإن عاش بينهم ، وكل هذا معروف ؛ ومن هنا جاء حديثنا عن ” غربة المعجم العربي ” .
من خلال ممارستي تدريس مادة اللغة العربية في عدد من المدارس الإعدادية والثانوية في اليمن ، ومعرفتي المتواضعة في ملاحظة بُعْـد لغتنا عن واقعها ومحيطها الذي ترعرعَتْ فيه قرونا ، ومزاحمة اللغات الأجنبية لها وتعمُّــد تهميشها وتنحيتها عن التفاعل الحضاري الذي نعيشه من قِبَل بعض المؤسسات والحكومات ، ازدادت غربة العربية ومعجمها المكتوب بشكل لا يستدعي حسن الظن ولا يعفينا من تحمل المسؤولية لما حدث أو سوف يحدث .
ويمكنني رصد بعض مظاهر تلك الغربة في النقاط الآتية :
-غياب المعجم المدرسي المتخصص الذي نقترح –كما اقترح غيرنا من الباحثين – أن يكون ضمن المنهج المدرسي لا معجما تم تأليفه في بلدِ ما أو اصدرته هيئةٌ ما ، ومع تقديرنا البالغ واحترامنا الكبير لكل الجهود التي بُذِلَتْ في هذا الصدد ، فالغياب المعجمي المذكور ليس نسفا لكل الجهود ولا تغافلا عن كل تجربة مشكورة في هذا المجال ، بل المقصود هو عدم تنبي وزارات التربية والتعليم في الكثير من البلدان العربية بما يُعرَف بالقاموس المدرسي الذي يجب أن تكون كلماته منتقاة بدقة ومؤلفَة من مفردات المناهج المدرسية نفسها التي يدرسها الطالب أو التلميذ حتى إكمال الثانوية العامة .
والغرض من ذلك هو إكساب الطالب أو التلميذ أكبر قدر من المفردات اللغوية التي تعمل على تنمية رصيده المعرفي في اللغة .
-قلة النصوص الأدبية المقررة التي تُدرَّسُ خصوصا في مناهج اللغة العربية الحديثة قياسا بالمناهج القديمة ، وسأضرب مثلا عن بلدي اليمن ، فقد لاحظتُ عبثا لا مبرر له في تقليل النصوص الأدبية والدينية على وجه الخصوص ، يرافق ذلك شِحَّة في المعلومات اللغوية التي تعين على شرح وإثراء النص الشعري والأدبي عموما ، فالطالب يواجه مشقة بالغة في فهم النص وتحليله لأن أغلب المفردات والتراكيب اللغوية غريبة عليه .
– هجر المعاجم العربية الأساسية كالقاموس المحيط للفيروزآبادي ، وتاج اللغة وصحاح العربية للجوهري ، وأساس البلاغة للزمخشري ، والمصباح المنير للفيومي وغيرها . وتقزيم دور تعليمها بالشكل المطلوب في الكثير من أقسام اللغة العربية في كليات الآداب ، بل إن بعض أقسام اللغة العربية تكتفي في تدريسها للمعجمية العربية بتعريف الطلاب بتلك المعاجم وعرضها عليهم لحفظ عنواناتها وحفظ أسماء أصحابها كواجب تمنُّ به على لغة الضاد أو براءة للذمة ألقتْها من عاتقها .!
وقد كانت لي تجربة شخصية في هذا الأمر حين كنا لا نجد المادة المعجمية في مقرراتنا التي ندرسها في الجامعة في مرحلة الإجازة ، ولا نمُرُّ عليها إلا عند ذكر بوادر النشأة الأولى للتأليف المعجمي في التراث العربي ! ، في حين تتجلى المصيبة أننا في كلية الآداب أُرهِقْنا بمقررات الأدب العربي ابتداءَ من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث على حساب الدراسات المعجمية أو مقرر المعاجم العربية والأصل أن يتم تكثيف الدراسات اللغوية والمعجمية على الأدب بكل فروعه ، مع العلم أننا لا نغمط الأدب حقه أو نقلل من شأنه بأي حال .
-تشوية اللغة العربية من حيث نشر العبارات المسيئة لها ، تلك العبارات السامة والمسعورة أيضا التي تصف العربية بأنها ” لغة ميتة “، وأنها لم تعد صالحة لهذا الزمان ، حتى وصل الأمر ببعض مرضى النفوس والعقول إلى الحكم عليها بأنها لغة منقرضة أو توشك أن تنقرض! ، ولم يدرِ أولئك الشامتون أن اللغة التي ترتبط بالدين والحضارة لا يمكن أن تموت ، فهي لغة الذكر الحكيم والحديث الشريف ، والتاريخ الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام .
صحيح أنها تضعف وتمر بمراحل انحطاط وازدراء كما هو الحال في كثير من البلدان التي تعاني من عقدة الانبهار باللغات الأجنبية ولكن العربية سرعان ما تعود حية متجددة بثوب قشيب وحُلَّـــة بهية ترغم الأعداء على الاعتراف بعظمتها وكبريائها اللذين يتجددان في كل عصر وحين.

يونس نعمان اليماني

