ان دققنا في كلمة إهانة نجد جوهرها لا يقتصر فقط على الكلمات القاسية أو المواقف التي بها اذلال للشخصية ؛بل هي عملية نفسية واجتماعية تتعدى الشخص لتؤثر على مجتمع بأكمله. بمعنى أن الشخص الذي يتعرض للإهانة أول مرة قد يصدم ،لكنه ان تقبلها وسكت عنها تتحول عنده الى أمر واقع ،يتكيف معه. ومع ذلك لابد من أسباب وعوامل تجعل الشخص يطبع مع الإهانة! وهل يمكن كسر هذه الدائرة التي تجعله داخل محورها ؟
1ــ كيف تتحول الإهانة من شعور صادم إلى أمر عادي :
الإهانة في أول الأمر تجعل الشخص يستشعر شعورا بالرفض وعدم الرضى ،ما يجعله يقاوم بطرق متنوعة ؛لكن التكرار مع ضغط الظروف الاجتماعية والنفسية يجعل جذوة المقاومة تنخفت لتنطفئ نهائيا وتصبح الإهانة أمرا مسلما به أو قد يتم اقناعه بأنها ضريبة العيش بالدنيا. لأن المستبد يعتبر غيره مجردا من كل ماهو عنده الحق فيه حتى حق العيش بكرامة في الدنيا.
أ) التكرار والتكيف النفسي :
ظاهرة الضفدع المغلي: كما أن الضفدع إذا وُضع في ماء بارد وسُخّن تدريجيًا فإنه لا يقفز حتى يغلي، كذلك الإنسان الذي يتعرض للإهانة بشكل متكرر، يبدأ بالشعور بأنها “عادية”.
– استخدام الدماغ لخاصية تقليل الحساسية بآليته الدفاعية لتجنب الشعور بالألم النفسي ، ما يجعل الشخص يبرر الإهانة حتى أحيانا من طرف الزوج مع زوجته التي لا تحترمه ،وقد لامست هذا المثال أكثر شيوعا في الوسط الفني أذ تمسح الزوجة او الطليقة الأرض بكرامة من كان زوجها وأبا لاولادها ،لدرجة تستفز الناس ويتولون الدفاع عنه ،فيصدمهم بموقفه السلبي وهو يبرر لها !!!
ب) الخضوع كنوع من الدفاع :
اذ يتسرب الخوف ويسيطر لدرجة يتعود الشخص على الاستسلام هروبا من المواجهة . بعض الأشخاص يقبلون الإهانة كحل آمن عوض المخاطرة بالمواجهة، إما خوفًا من فقدان وظيفة، أو شريك، أو حتى مكانة اجتماعية.
فيكون غياب البدائل سببا حتميا لتقبل الإهانة عند الضحية نظرا لتبعيته الاقتصادية أو العاطفية لمن يذله .
ج) التطبيع المجتمعي:
– عندما تتكرر الإهانة على مستوى المجتمع، فإنها تتحول إلى “ثقافة” غير معلنة، حيث يصبح من الطبيعي رؤية رئيس يوبخ موظفيه أمام الجميع، أو زوج يهين زوجته علنًا، دون أن يثير ذلك أي استنكار حقيقي.
2ـ كيف تلعب البيئة الاجتماعية دورها في تقبل الشخص للاهانة :
الشخص هو ابن بيئته قانون متعارف عليه ، لذلك تلعب البيئة دورا محوريا في جعل الشخص مهيأ لتقبل الإهانة والاستجابة لها او العكس ؛لأنه ينشا في ظروف تشكله نفسيا .اذا كان الله سبحانه وتعالى كرم بني آدم ،فهو يولد معاديا للذل وليس متسامحا مع الإهانة لكن التجارب والتفاعلات داخل بيئته تجعله يتعلمها ويرضخ لها .من ذلك:
أ) التنشئة الأسرية ودورها في غرس الرضى بالإهانة:
– استخدام السلطوية المفرطة في تربية الأبناء:هناك بعض أولياء الأمور أو المربون بصفة عامة يلجؤون الى استخدام الفوارق الواسعة بينهم وبين الأجيال فيتعامل مع الأصغر بعلو يجعل التواصل صعبا ويخلق بعدا كبيرا بين مفاهيم الأجيال .ما يسبب خلطا في المفاهيم اما ان ينعكس بالقوة المفرطة لدرجة الغرور ،او الخضوع التام لدرجة الذل والإهانة .
– دور الأم والأب: تقبل أحد الوالدين للإهانة يقدم للطفل القدوة في شرعيتها مستقبلا، وتبنيه كسلوك حتمي .
– تربية الطاعة العمياء: أسلوب التربية القمعية للطفل وقهره وفرض الطاعة المطلقة عليه وعدم السماح له بالانفعال أو الاعتراض، يهيؤه لتبني الإهانة كمصير طبيعي في الحياة .
ب) المدرسة والعمل :
مصدر آخر لإعادة تشكيل الإهانة وتطويرها بالتنمر الذي يتعرض له الطفل دون ان يلقى دعما مناسبا .والعمل يحول الموظف الى شخص معتاد على الاستسلام للإهانة ،عندما يعتاد على تحقيره واستصغار امكانياته. والتسلط بواسطة التعنيف اللفظي والتوبيخ العلني من طرف رئيس مؤسسة ما ،يجعل هذه التصرفات آليات مشروعة تعود الموظفين على تقبلها كأدوات إدارية ،وتتحول الى جزء من ثقافة العمل بالشركة أو الإدارة العمومية .
ج) الإعلام ودوره في التطبيع مع الإهانة:
ــ المؤسف في الأمر أن الرقابة غائبة الى منعدمة على المحتويات التي يستهلكها الشخص يوميا خاصة في مرحلة الطفولة ؛اذ تتسلل إلى البيوت محتويات داخل مسلسلات وأفلام يتم التغافل على ما تبطنه من عوامل هدم بطيء للشخصيات الآدمية التي كرمها الله .من ذلك انها تثبت في ذاكرة الأجيال ان الشخصية القوية تتميز بإهانة الناس مايعمل على ترسيخ فكرة اذلال الناس كعلامة بارزة للنجاح والتفوق والسيطرة .
ــ بعض البرامج الحوارية أيضا تجعل من إهانة الناس شكلا من اشكال الاذلال العلني للمشاركين فيتعود المشاهد كان كبيرا ام صغيرا على تقبل الإهانة كنوع من الترفيه .
3ــ كيف ينتبه الشخص الى كرامته المفقودة وهل يستطيع استرجاعها:
في غالب الأحيان لا ينتبه الشخص الى كرامته التي ضاعت منه وهو في طريقه نحو التطور ،الا عندما يحس أنه لا يتطور بل كالذي يتحرك فوق عجلة مثبتة بالأرض .يحاول القفز فيكتشف أنه لايستطيع .
أ) العلامات الدالة على فقدان الكرامة :
ــ يتحول الشخص الى ممسحة احذية سواء في العلاقات العاطفية ،أم بيئة العمل ،أم حتى بين الأصدقاء.
ــ افتقاده للقدرة على التعبير عن رايه :يتحول الى شخص دائم الخوف من ابداء الرأي كي لا يتعرض للسخرية أو الانتقاد. فقدانه للقدرة على تقييم نفسه وتصبح لديه تبعية تامة موكلة للآخرين المحيطين به .
ب) نأتي للسؤال ،هل يمكن استرجاع الكرامة؟
الأمر ممكن لكنه يتطلب شجاعة كبيرة :
ــ أولها مصارحة النفس بالاعتراف بالمشكلة:على الشخص أن يعود نفسه من جديد على تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية ؛منها نعت ما يتعرض له هواهانة وليست نصيحة أو محبة قاسية .
ــ ثانيها رسم الخطوط الحمراء لوضع ايطار لاحترام كينونته .
ــ ثالثها الابتعاد عن الأشخاص السامين :سواء من أقرب الناس كالعائلة ،أم من الأصدقاء ،أم الزملاء في العمل.
رابعها تقوية الثقة بالنفس: بتحقيق إنجازات ولوبسيطة تعيد اليه الثقة انه قادر على النجاح ،وتحقيق الذات .
خامسها لا بأس من توفير شروط التغيير لنفسه بالانتقال إلى بيئة داعمة: كالانضمام الى مجتمعات تحافظ على كرامة الأشخاص وتشجع على احترامها.
4 ــ التطبيع مع الإهانة واثره الوخيم على الأجيال القادمة :
اذا استسلم الأفراد للإهانة فإنهم يعطونها امتدادا للأجيال القادمة مما يخلق مجتمعا مستسلما للذل ومطبعا مع الخضوع والاستكانة ،وفرصة سهلة للاستغلال الدائم .
أ) النمطية في تكرار الموديل عبر الأجيال :
ــ الطفل الذي يفتح عينيه على والدين مستسلمين قابلين بالاذلال والإهانة سيتبناها كأسلوب حياة، سواء كضحية أو كمُسيء.
المجتمعات التي تفوت وتتسامح مع الذل والإهانة ،تخلق وتنتج أشخاصا عاجزين عن طلب حقوقهم المشروعة في العيش الكريم ،والحفاظ على الكرامة الآدمية التي خلقوا بها أصلا واستسلامهم للظلم.
ب) إضعاف روح المبادرة والمقاومة:
ــ يتحول أفراد المجتمع الى ناس سلبيين تجاه قضايا المجتمع ،فاقدين للقدرة بل حتى الرغبة في التغيير مستسلمين للظلم الاجتماعي بشكل مطلق ،كأنه أمر طبيعي ومصير محتوم.
ــ ظهور جيل فاقد للقدرة على الابتكار أو القيادة لانعدام الثقة التي تؤهله للدفاع عن أفكاره.
ج) انتشار العلاقات السامة :
سواء في نطاق الزواج تنعدم المودة والرحمة ،أو العمل تغيب مبادئ وشروط الزمالة من تآخي وتعاون ، سواء في الصداقات ينعدم الإخلاص والوفاء ،يصبح الرضى بالإهانة هو المعيار مما يكرس زيادة العلاقات الخبيثة غير الصحية التي تقوم على الاستغلال بألوانه المتعددة.
في الختام نتساءل :كيف نكسر دائرة التطبيع مع الإهانة؟
لابد من نشر ثقافة معاكسة تقوم على رفض الإهانة والتطبيع معها ،من خلال التعليم والاعلام .التأكيد وتعميق الاعتراف بثقافة الاحترام عن طريق بناء علاقات تقوم على الاحترام المتبادل بعيدا عن السيطرة والاخضاع. مد يد العون لكل فرد يؤمن بالتمرد على الذل والإهانة سواء كان دعما نفسيا أم قانونيا أم اجتماعيا من خلال التضامن والتكافل.
العمل على خلق البيئات الآمنة على مستوى الأسرة والمدرسة بتلقين الافراد طرقا ناجعة لوضع حدود صحية ضد الإهانة.
لكن يظل السؤال مفتوحا: كيف نستطيع استبدال ثقافة التطبيع مع الإهانة بمجتمعاتنا؟ وهل هي مهمة فردية أم مهمة مِؤسساتية ؟؟
الدكتورة نزهة الماموني
مقال عميق جدًا ويصف واقع نعيشه بدون ما نشعر! فعلاً الإهانة تبدأ كصدمة، لكن التكرار والتطبيع المجتمعي يخليها شيء عادي، وهذا أخطر ما في الموضوع. لازم نكون واعيين لكرامتنا وحدودنا، ونتعلم نقول لا لأي شكل من أشكال الإهانة. التغيير يبدأ من الفرد، لكن لازم يكون فيه دور أكبر للمجتمع والإعلام في تعزيز ثقافة الاحترام.
ومن جهة أخرى، الشخص اللي يهين غيره بشكل مستمر غالبًا عنده نقص يحاول يعوضه بالإساءة للآخرين. الإهانة لا تدل على قوة، بل العكس تمامًا، تدل على ضعف داخلي وشعور بالنقص. بعض الناس لا يستحقون حتى الرد، لأن مستواهم أقل من أن يؤثروا عليك. التجاهل أحيانًا يكون أقوى رد.