الرئيسيةالأولىسلسلة : شذرات رمضانية 8. دعاء الصائم.. حين تلتقي الأرض بالسماء

سلسلة : شذرات رمضانية 8. دعاء الصائم.. حين تلتقي الأرض بالسماء

رمضان

“إذا ضاقت عليك الأرض، وضاقت عليك نفسك، وضاقت بك الأسباب، فاعلم أن هناك سماءً لا تُغلق، وربًّا لا يردّ سائلاً، ورحمةً لا تنفد.”

حين يتسحر الصائم على نية الصبر، وحين يصبح على نية الرضا، وحين يفطر على نية الشكر، فإن كل لحظة من لحظاته تكون دعاءً صامتًا يُكتب له في صحائف القبول. فما سرّ هذه العلاقة العجيبة بين الصيام والدعاء؟ ولماذا خُتمت آيات الصيام في القرآن بقوله تعالى:
“وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أُجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون”؟

في أعماق النفس الإنسانية، هناك شعور خفيّ يحتاج إلى من يسمعه، إلى من يطمئن إليه، إلى من يحيطه بالرحمة دون شرط أو حساب. هذا الشعور لا يُفسّره العقل، لكنه يدفع الإنسان في لحظات ضعفه وقوته، في يقظته وسجوده، في حزنه وفرحه، إلى رفع يديه نحو السماء، وكأن روحه تهمس قائلة: “يا الله!”

قد يقف العقل عند حدود الأسباب، لكن الدعاء يتجاوز الحدود، ويخترق الأقدار، ويصنع المستحيل. فمن كان يظن أن زكريا عليه السلام، بعد شيخوخته ووهن عظمه، سيرزقه الله ولدًا اسمه يحيى؟ ومن كان يتخيل أن يونس، في بطن الحوت، في ظلمة البحر، سينجو بكلمات خالصة: “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”؟

هكذا هو الدعاء…هو يقينٌ ينفذ إلى السماء، فتُفتح له الأبواب، ولو بعد حين. فحين يصوم الإنسان، تصفو روحه، وتنكسر شهواته، وتتهذب نفسه، فيصبح أقرب ما يكون إلى الفطرة، أقرب ما يكون إلى الله. ومن كان قريبًا من الله، كان دعاؤه أصدق، وأعمق، وأقرب إلى الإجابة.
يقول النبي ﷺ:
“ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.”
تأمل هذه الكرامة العظيمة! أن يكون دعاؤك في الساعات الأخيرة من الصيام مستجابًا، لأنك في حالة صفاء، في حالة انكسار، في حالة يقين بأن خزائن الله لا تنفد، وأن رحمته أوسع مما تتصور.

وليس كل من يدعو يُجاب له، وليس كل من يرفع يديه يُعطى، فهناك أسرار للدعاء، وطقوسٌ تجعله يصل إلى السماء بقوة.
1. ادعُ بقلبٍ حاضر متخشع، فإن الله لا يستجيب لدعاء غافل لاهٍ.
2. ادعُ وأنت موقن بالإجابة، فالدعاء يقينٌ بأن الله يسمع ويرى.
3. ادعُ بإلحاح وتكرار، فقد دعا يعقوب عليه السلام سنوات طويلة قبل أن يعود إليه يوسف.
4. ابحث عن أوقات الإجابة، وأفضلها عند السَّحر، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار، وفي الثلث الأخير من الليل.
5. ادعُ بلسانك، ولكن بقلبك قبل ذلك، فلتتوجه بصدق إلى الله لا بصوتك، بل بروحك .

وإن كثير من الناس يدعون الله فقط وقت الحاجة، وحين تتحقق حاجتهم، ينسون ويدبرون . لكن الدعاء يتجاوز ذلك إلى كونه يعد طريقا إلى النجاة، إلى الثبات، إلى السكينة، إلى أن تكون في معية الله في كل لحظة. لذلك، كان أكثر دعاء النبي ﷺ:
“يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك.”
فلم يكن النبي ﷺ يطلب مالًا، ولا جاهًا، ولا متاعًا، بل كان يطلب القلب السليم، والإيمان المستمر، والطمأنينة التي لا تهتز.

قد تدعو اليوم، ولا ترى الإجابة، لكن ثق أن الله قد كتب لك خيرًا في الغيب، إما أن يعطيك ما سألت، أو أن يدفع عنك بلاءً، أو أن يؤخرها لحكمة يعلمها وحده.

فحين ترفع يديك إلى السماء في لحظة الإفطار، تذكر أنك لا تدعو إلها بعيدًا، بل ربًّا قريبًا، أقرب إليك من حبل الوريد، أقرب إليك من أنفاسك بعد نهار صيام. فيا من صمت يومك، وأقبلت على ليلك، اجعل لك دعوة لا تنساها، لعلها تكون مفتاحًا للخير في دنياك وآخرتك.

هشام فرجي
هشام فرجي

هشام فرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *