“ما انفرد عبدٌ بخالقه إلا أشرقت أنوار الحكمة في قلبه، وتجلّت أسرار المعرفة في روحه.”
في زحمة الحياة، وبين صخب الأيام، يبحث القلب عن لحظة يخلو فيها بنفسه، يستمع إلى أنفاسه، ويعيد قراءة حكايته. رمضان هو شهر مقدّس، حيث نُفرغ بطوننا، لنملأ أرواحنا، ونتخفف من أثقال العادة، لنرتقي إلى مقام العبادة.
وهنا، تأتي قيمة الخلوة… عزلة ليست مادية، بل هي رحلة إلى دواخلنا، إلى حيث تسكن الحقيقة، ويخفت ضجيج العالم، ولا يبقى إلا الصوت الخفيّ الذي يناديك: “أقبل!”
فالخلوة.. هي مقام العظماء وسرّ النبوة، فلم يكن أحدٌ من العظماء إلا وقد عرف سرّ الخلوة، واتخذ منها بابًا للحكمة، ومدرسةً للتأمل، ومنبعًا للصفاء.
هل نتذكر إبراهيم عليه السلام حين تأمل في خلواته في ملكوت السماوات والأرض، فاهتدى إلى أن وراء هذا الكون ربًّا واحدًا؟. وهل غاب عنا مشهد موسى عليه السلام على جبل الطور، حين خاطبه الله سرًّا في ظلمة الليل؟. ألم يكن نبينا محمد ﷺ يعتزل الناس في غار حراء، بعيدًا عن ضوضاء مكة، حتى تنزل عليه الوحي، فكان بداية فجرٍ جديدٍ للبشرية؟.
هكذا كان العارفون، من أهل الحكمة والفلسفة، وأهل التصوف والتأمل، وأهل العلم والبحث، يدركون أن العقل لا ينير، والقلب لا يصفى، إلا إذا انفرد الإنسان بنفسه، فواجه حقيقته ، وأعاد ترتيب روحه.
وتذكر كذلك ابن سينا، حين كان يبحر في أغوار الفلسفة، كان يعتزل الناس ليلاً، فينقش الحكمة في قلبه. والمنفلوطي أيضا ، وهو سيد البيان، لم يكن يكتب حرفًا حتى يجلس مع نفسه طويلاً، يفتش في ذاته عن الكلمة التي تليق بأن تخرج للنور. أما المعري، فقد صنع من عزلته كونًا فكريًا كاملًا، لم يكن فيه إلا العقل واللغة والتأمل العميق.
فكيف بنا ونحن في أقدس الشهور، وأقرب الليالي إلى الله؟ ألا نستحق أن نقتنص لحظةً نعيد فيها اكتشاف أنفسنا؟
ففي مناجاة في الليل…حين تهدأ الأصوات، ويغفو العالم في سباته، هناك قلوبٌ لا تنام، وأرواحٌ لا تغفل. إنها لحظة السَّحَر، حين يكون باب الله مفتوحًا، والعفو أقرب، والرحمة أوسع. ففي الخلوة، لا نحتاج إلى كلمات، ولا إلى خطب بليغة، يكفي أن نفتح قلوبنا، ونترك دموعنا تهمس بدلاً منا.
قد نكون مُثقلين بالذنوب، لكننا نعلم أن باب التوبة لم يُغلق. وقد نكون حائرين، لكننا ندرك أن في سجدة صادقة جوابًا لكل الأسئلة. وقد نكون خائفين، لكننا تعلم أن الله أقرب إلينا من أنفاسنا.
فهذه الليالي ليست للمسلسلات، ولا للثرثرة الفارغة، بل هي ليالي المناجاة، ليالي الصفاء، ليالي العودة إلى الله دون قناع أو تصنّع. وليس المطلوب أن يهجر الانسان الناس، أو يعتزل الحياة، بل أن يجد لحظة نقية وسط زحام الأيام، يكون فيها هو والله فقط.
1. وقت السَّحَر.. حين يكون العالم نائمًا، كن أنت مستيقظًا لله.
2. بين الأذان والإقامة.. لحظة قصيرة، لكنها تصنع فارقًا في القلوب.
3. بعد الإفطار.. بدل أن تذوب في أحاديث عابرة، اجلس مع نفسك وتأمل يومك.
4. في جوف الليل.. حين يسود الهدوء، اجعل قلبك يتحدث مع خالقه واتركه يناجي ربه..
إذا هناك دائمًا وقتٌ لمناجاة الله. فيا من تبحث عن السكينة، ويا من تشتاق إلى الطمأنينة، ويا من تريد أن تمسح عن روحك غبار الأيام… اصنع لك خلوة، ولو دقائق، وتذكر أن الله أقرب مما تظن، وأحنّ مما تتخيل، وأرحم بك من نفسك. فهنيئًا لمن جعل في رمضان موعدًا خاصًا مع الله.. حيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، إلا من لا تخفى عليه همسات القلوب.

هشام فرجي