ففي هدوء الليل، حين تنام العيون وتخفت الأصوات، هناك قلوب لا تزال ساهرة، تستأنس بأنوار السَّحر، وتبث شكواها إلى الله. إنها لحظات قرب من الله لا تضيع فيها دعوة، ولا يُرد فيها سائل، كما أخبر الصادق المصدوق ﷺ:
“ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟”
فكيف يغفل العاقل عن هذه التجارة الرابحة؟ وكيف ينام عن ساعة تتجلى فيها رحمات الله؟!
إن قيام الليل في رمضان هو روح الشهر ومفتاح المعراج إلى الله. فالساجدون في لياليه لا يسجدون أجسادًا فقط، بل تسجد معهم أرواحهم وقلوبهم. قال تعالى:
“تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.” (السجدة: 16-17)
هي لحظات لتحرير القلب من أسر الدنيا، ومناجاة بين العبد وربه بلا حجاب، حيث تتنزل السكينة، ويتبدد الهم، ويتذوق العبد لذة القرب من الله.
ومع أول خيط من بزوغ الفجر، يأتي النداء العظيم: “الصلاة خير من النوم”، نداء ينتشل الروح من سباتها، ويوقظها من الغفلة لتشهد بداية يوم جديد، بقلب نقي وروح متجددة.
فكم من إنسان يستقبل الفجر مثقلًا بأعباء الحياة، لكنه إذا قام لله خفَّت همومه، وامتلأ قلبه باليقين. ألم يقل النبي ﷺ: “بشِّر المشَّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة”؟ فكيف بمن تعوّد على أن يكون من أهل الفجر؟
إذا ليالي رمضان هي فرص العمر، فمن أراد أن يكتب اسمه في سجل الساجدين، فليقم قبل الفجر ويطرق باب السماء. ومن أراد أن يكون من أهل النور يوم القيامة، فليجعل لصلاة الفجر مقامًا في حياته. “فيا أيها القلب، هل ستدع ليالي رمضان تمر دون أن تلامس روحك أنوار السَّحر ونداء الفجر؟”
