صدرت مؤخرا عن دار السليكي أخوان بطنجة لسنة 2025، للمؤرخ العسكري الأكاديمي، وأستاذ التاريخ المعاصر محمد براص دراسة تاريخية نوعية في أزيد من 500 صفحة، حملت عنوان.. لعبة الغرب.. المغرب والوطنيون المسلمون واليهود والعالم العربي في معترك التيارات الإسلامية واليهودية والغربية عند مطلع القرن العشرين، يمثل فيه المغرب الوعاء الشامل لمكونات الوطنيين من المسلمين واليهود بالبلاد في آن واحد؛ بينما يشكل “الغرب” لدى المؤلف، تلك المنظومة التي تحتضن العديد من القوى المتصارعة فيما بينها وفق أهداف مسطرة ومُفكر فيها بشكل قبلي وقصدي بالرغم من طابعها الهجيني ومفاهيمها المعقدة والتي طالت العالم العربي عامة، وهي العلاقات التي لم تكن في الغالب الأعم، كما يكشف الكتاب عنها، واضحة المعالم بقدر ما كانت مُؤطرة ضمن دوامة الصراع الخفي القائم بين مختلف الدول الأوروبية للظفر بالامتيازات سياسيا واقتصاديا وثقافيا في كل من المغرب بمحيطه المتوسطي المغاربي، وبالشرق العربي في بعده الاستراتيجي، وبالعمق الإفريقي بمؤهلاته ومدخراته الطبيعية بشكل عام.
تتضمن الدراسة ستة أقسام وسبعة عشر فصلا، إذ جاء القسم الأول تحت عنوان: المسلمون واليهود والنشاط السياسي الوطني بين مؤثرات المد السلفي والمد القومي وضغوط الحركة الاستعمارية، بينما وضع القسم الثاني تحت عنوان النشاط السياسي للمسلمين ويهود البلاد في ظل تداعيات المؤتمرات الإسلامية (1931-1935)، أما القسم الثالث من الكتاب فقد جاء بعنوان: كتلة العمل الوطني وعوائق المشاركة السياسية للمغاربة اليهود (1933-1936)، ليوضع القسم الرابع من الكتاب بعنوان: العمل السياسي الوطني والمغاربة اليهود في خطط النازية، أما القسم الخامس فقد عنونه المؤلف ب: النشاط السياسي للمسلمين المغاربة ويهود البلاد في معترك الدعاية الفاشية، بينما تم وضع القسم السادس بعنوان: الوطنيون المغاربة المسلمون واليهود في ظل نشاط التيار الشيوعي، لتختتم الدراسة بقسم سابع تحت عنوان: النشاط السياسي لمسلمي ويهود البلاد في ظل موجة المحافل الماسونية.
يضع الكتاب تاريخ الحركة الوطنية والوضع السياسي للمغرب تحت المجهر بالاعتماد ولأول مرة وبشكل موسع، على كم هائل من الأرشيفات التاريخية والوثائق السرية التي حصل عليها المؤلف من كل من فرنسا وألمانيا وأمريكا وإسبانيا، بالإضافة إلى الأرشيفات والوثائق المحلية، حيث يميط اللثام عن العديد من الأحداث والقضايا التي كانت تحاك من لدن عدد من عملاء القوى الأجنبية في سياق عمل الحركة الوطنية المغربية وفي صلتها بالأحداث والمؤثرات الدولية التي كانت تحاك في ظل كواليس الصراع الدولي حول المغرب. كما يكشف الكتاب عن طبيعة المؤثرات ذات المرجعية الإسلامية، والتي كانت تصل أصداؤها إلى المغرب، ومدى حقيقة قوتها في بلورة فكر سياسي يعتمد تلك المرجعيات في بناء علاقاته مع المغاربة اليهود، خاصة منها ما ارتبط بنشاط بعض الأعضاء المغاربة ضمن اللجنة العليا الإسلامية المستقرة بالقدس، وجمعية الرابطة الإسلامية، فضلا عن كل من جمعية مسلمي أوروبا والجمعية الإسبانية الإسلامية واللجنة السورية الفلسطينية المغاربية واللجنة التنفيذية العربية لفلسطين والجمعية الكبرى إيسلاميش كلاتشر باند وجمعية شباب المسلمين بالقاهرة، زيادة على التنسيق على مستوى أقطار المغرب العربي عبر جمعية طلبة شمال إفريقيا. ويرصد المؤلف أيضا مجمل الكواليس السياسية والاستخباراتية التي عُقد في ظلها مؤتمران تحت مظلة المرجعية العربية الإسلامية؛ الأول بالقدس في العام 1931، والثاني في جنيف في العام 1935 وتبعاتهما على المغرب والمنطقة المغاربية والعربية بشكل عام.
يؤرخ الكتاب ولأول مرة لنشاط ضباط الاستخبارات الأجنبية حسب توجهاتهم الإيدلوجية، والممثلة في أربعة اتجاهات: الاتجاه الأول ارتبط بالدعاية النازية، أما الاتجاه الثاني فوجد طريقه في الدعاية الفاشية، بينما تمثل الاتجاه الثالث في التيار الشيوعي، وتعلق الاتجاه الرابع بالمد الماسوني، حيث يميط اللثام عن طبيعة الصراع الدولي الذي رافق المسار السياسي لمغرب مطلع القرن العشرين، ويكشف عن عدد من المناورات التي تحكمت في ذلك، فضلا عما كان يلف مفاهيم “القومية العربية” من مناورات خفية، ارتبطت إجرائيا بتأطير سياسي ترجمت فصوله بشكل متفاوت ومتشابك من لدن رواد الحركة القومية والعربية، وظل صيتها يصل عبر صوت يونس بحري من برلين ويقابله صوت البي بي سي وفويس أوف أميريكا ضمن موجة إعلامية دعائية أثيرية متشابكة الأهداف.
يطرح الكتاب في سياق الإشكاليات المعرفية ذات الصلة بمجال الفعل الوطني المغربي في علاقته بالحركة الاستعمارية، أبواب التفكير والتأمل في البعد الوطني الذي دوّنته عدد من الأقلام المغربية، في سياق طبعت مفارزه الزمنية بالتطابق أحيانا على مستوى المنعطفات التاريخية التي تم اعتمدها في الكثير من الدراسات من دون نقد تاريخي واضح لها حسب المؤلف؛ حيث يقدم الكتاب نظرة مغايرة للفعل التأريخي للحركة الوطنية المغربية، مبنية على النتائج المحصل عليها بعد تفكيك ورفع السرية عن عدد من الملفات الأرشيفية التاريخية، من ذلك وقوفه على طبيعة التردد الذي طال خطاب الشباب الوطني المغربي المسلم الداعم لتوجهات التيار السلفي، وعدم الوضوح في الرؤى الفكرية المبنية على عدد من التجليات؛ ومنها طبيعة التناقضات الداخلية التي بصمت الحركة السلفية وتنوع أطرافها، حيث يعتبر المؤلف على أن تلك الأفكار ظلت حبيسة تصورها التقليدي، الذي ظل بدوره يرى في كل ما هو جديد خطرا على العقيدة الإسلامية ومدعاة “لتفكيك الجسم الإسلامي”. ومن ثم،ّ إقصاء كل ما هو مخالف لتوجهها الفكري؛ بما في ذلك التوجه الشيوعي. ويتساءل المؤلف أيضا، عن تجربة الحركة الوطنية انطلاقا من استحضاره لعدد من المفاهيم السياسية من قبيل مفهوم بناء الدولة الوطنية في ظل الشروط الموضوعية للحركة السلفية المشرقية وموقع الحركة السلفية في المغرب، ومدى إحالة السلفيين المغاربة على الأفغاني كأنموذج فكري لها، في ظل إسقاطات لتجارب سياسية مغايرة.
يثير الكتاب العديد من القضايا المرتبطة بتاريخ الحركة الوطنية من قبيل الكشف عن خبايا الصراع داخل كتلة العمل الوطني، وكواليس تأجيج مفعول الظهير البربري للعام 1930، ومعطيات لقاءات علال الفاسي بالعملاء الألمان المتخفين بالزي المغربي بفاس، وظروف وضع دفتر المطالب الإصلاحية لسنة 1934 على طاولة الألمان، وسياق رحلة الوطنيين إلى الديار الأوربية الممولة من لدن النازية، فضلا عن خبايا النشاط السري لشكيب أرسلان في علاقته بالوطنيين وبالتيارين النازي والفاشي معا، وصلتهم مسلمين ويهود، بالدوتشي موسوليني، في ظل مساندتهم للشعب الإثيوبي المسلم ودعم المشروع الحربي الإيطالي في آن واحد. مع الوقوف على طبيعة الخلايا الشيوعية وصراعها في ظل مغربة التيار الشيوعي على يد المغاربة المسلمين واليهود معا، وعلى رأسهم نشاط المنيعي، وإدمون عمران المالح، وجرمان عياش. ومدى صلة المغاربة بالتيار الماسوني في ظل سياسة فرانكو بالمنطقة الخلفية، مع ما رافق ذلك من سياقات استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي ومناورات التيار القومي ضده.
يطرح الكتاب سؤال عريضا، فيما إذا كان المغرب عند مطلع القرن العشرين ضحية لموقعه الجغرافي، وتعرض سكانه من المسلمين واليهود لاستراتيجية الدول العظمى وغزو التنظيمات الدولية الكبرى بتياراتها المختلفة، من السلفية والقومية والصهيونية والنازية والفاشية والماسونية؟ تلك التيارات التي ظلت تتصارع فيما بينها في السر والعلن عبر مختلف مكوناتها، وتتوحد في المصالح، وتصطدم أمام تشابك الأهداف المسطرة لقاداتها ومنظريها على المديين القريب والمتوسط ضمن لعبة الغرب الاستعمارية التي لم تنتهِ فصولها بعد إلى اليوم.