الرئيسيةإبداعقصة قصيرة:  تَبَاريحُ الخُضَرِيّ

قصة قصيرة:  تَبَاريحُ الخُضَرِيّ

قصة قصيرة تَبَاريحُ الخُضَرِيّ

أنشودة بيضاء، يُردّدها “لافُوكَا“ مع إشراقة كلّ صباح، ينادي على أثمان سلعته بصوته الجهوري: “وَااا..المليح“. يتلقّفها المُشترون موسيقى تمجّدُ للرّخاء. رجلٌ يجاور الستّين من عمره، هويته في صمته، تراه شاردًا في وقفته، وتشعرُ أنّ في أعماق الرّجل أسرارٌ ووجعٌ دفين. صمتُه وشرودُه مرّات يُخيفاني، حين أقف إلى جانبه وأدقّق في ملامحه. حالة نفسية مُعقدة وصعبة التفسير، حين ينتهي الرّجل من سُعاله، أشعر كأنّ هواء ساخنًا مكتومًا يخرج من أعماق جوفه. “

لافوكا“ هي كُنية الرجل، وبها يُعرف ويُناديه الناس. يعيش حياته بعفوية عجيبة، كما يريدُها هو، لا كما يريدُها له الآخرون. بحثت بما يكفي، ولكنني فشلت، لم أعرف كيف أهتدي إلى اسمه ولقبه الحقيقي. كنت أجد دائمًا فيما اختاره الناس له من كُنية كافيًا، وأصبحت أناديه بـ“لافوكا” مثلهم. لا أنكر أنّني كنت في البداية أخاف من ردة فعل غير متوقعة منه، ولكنّني حين عرفت كم هو طيّبٌ ومُسالم، استأنست إلى طبعه وطبيعته.

هجرة “لافوكا” من قريته بالبادية إلى فاس، لم يكن اختياريا، سنوات الجفاف الحادّ بالبادية في التسعينيات ألزمته على ذلك، واختار مثل كل الوافدين الجُدُد على فاس امتهان بيع الخُضر دون الفواكه. مهنة انحاز لها كل المُهاجرين من البوادي المُجاورة للمدينة، لأنها لا تتطلب رأسمالا كبيرًا، ولا رصيدًا ضخمًا في البنك. كل ما تتطلبه صوتٌ وتعب، ثم أشياء تأتي بالتدريج لاحقا، ومُعاملات أخرى يتعوّدون عليها مع مرور الوقت.

لا تجد الفواكه في دكان “لافوكا” الصغير إلا نادرًا، في الشتاء ينكمش وسط دكانه بالزّاوية، وفي الصيف يخرج مُناديًا على بضاعته. شخص ذو ملامح مُحايدة وغامضة، وإن كانت سحناتُ وجهه تحمل آلام صغر صامتة. كثيرا ما يسهو أو يصمت، وحين يستعيد نشاطه وحيويته ينادي بأعلى صوته، محدّدا أثمنة جديدة لما لديه من خضروات، أثمنة تتجدّد على لسانه في كل مرّة، مُنافسة كثيرًا ما تكون غير شريفة بين بائعي الخُضر والفواكه، حرب باردة بين “الخضّارين” من أجل كسب المزيد من الزّبائن.

لا تعرف من جغرافية وجه الخُضَرِيّ، إن كان سعيدًا أو بئيسًا. يعرض “لافوكا” بضاعته في دكان يبدو صغيرا، مثلث الأضلاع مثل قطعة جُبن، ولكنّ وُجوده في زاوية تحت شجرة أعطاه مساحة إضافية، وأصبح يبدو أكبر وأوسع من مساحته الحقيقية. الشجرة التي تظلل جوانب الدكان الصغير عاملٌ إضافيّ يشجع الزّبائن على الإقبال والتّوافد، وُيسَبّب زِحَامَا وعرقلة للرّاجلين وسائقي السيارات. ينادي الخُضَرِيُّ على البضاعة بما يملك من طاقة وحيوية، مُستعمل في ذلك جُملا مُقتضبة وصارمة، تعبّر عنها ملامح وجهه الذي لا يقل صرامة، هو بدوره كشخص، لا تنقص شخصيته صرامة.

يعرض بضاعته المُوَزّعة بين الدكان والرّصيف بدون ترتيب، وتعابيره لا تخلو بدورها من فوضى في التركيب، ولو أنه يعمل ما في وسعه على ترتيب بضاعته والترويج لها دون توقف. مهنة بيع الخضر والفواكه علم البعض كيف يكون فنانا دون أن يدري، وهكذا تصبح دكاكينهم عبارة عن لوحات تشكيلية تسرّ الناظرين، وتغري عيون المشترين وتجلبهم، ولكن عرض البضاعة فنّ لا يُتقنه الخُضريّ “لافوكا“، كما غيره من بائعي الخُضر والفواكه. ولذلك تجد أغلب عباراته جافة وباردة وغير مُهيّجة للمُشترين، عكس ما يعلن عنه من أثمنة. ومع ذلك، لا تجد دكانه خاليا أبدًا من الزّبائن.

يُساعده في تجارته بعضُ الشبان، وهم يعملون دون توقف في صمت، لا يعرف إلا القليلين إن كانوا أبناءه أو إخوته وأبناء عمومته. يتعاملون جميعهم مع الزبائن بلطف وهمّة وجدية عالية، وقلما تجدهم يتكلمون مع بعضهم أو مع زبائنهم. ربما يؤجلون الكلام إلى المنزل أو جلسات أخرى، عند الانتهاء من بيع ما لديهم من سلعة. يقول “لافوكا” لزبونة، في صدق أبناء الريف:

– الله رزقني بولدين وبنت، عكس ما كنت أشتهي.كنت أتمنى أن أكون مثل أبي، ترك وراءه ما يفوق العشرين نفرًا بين ذكر وأنثى…!!

يُقسم الرجل بإيمانه أنه كان يتمنى لو أنه شابه أباه، ولكن الله شاء غير ذلك. يُعرف “البرّاح“ عند زبائنه، وأغلبهم من النساء، بكَاسِر الأثمنة، وهم من كل شرائح المجتمع، فيهم الموظف، الطبيب والصيدلاني، وكلهم يزدحمون على اقتناء بضاعته، تجد في جنبات دكانه العامل كتفا لكتف إلى جانب المتقاعد والعاطل عن العمل. “لافوكا” له لغة خاصة ومنطق خاص في التعامل مع زبائنه، يفهمها الجميع ويعملون بها. ينادي على أثمان البضاعة المركونة بلا تنسيق، توخز مُفرداته المغرية جيوبهم، ولكنهم يتجاهلونها أحيانا كما يتجاهل العابرون هدير أمواج البحر على الشاطئ.

كثيرا ما أتساءل، وأنا واقف أمام دكانه، لماذا لا يبيع الفواكه ويكتفي بالخُضر؟ ولماذا تلتطم أمواج من أجساد الرجال بأفخاذ النساء أمام دكانه؟ يلتقي في دكانه المُتديّن والمُلتحي مع الحداثي والعلماني، الشباب مع المُسنين، المُتبرّجة مع المحجّبة والمُنقبة، زبائنه من كل الأعمار والطبقات والإيديولوجيات، تجدهم يتزاحمون بعفوية على انتقاء مُشترياتهم. ولم يسبق أن اشتكت زبونة من احتكاك مُتعمّد أو تحرّش أمام دكانه، إن بالواضح أو بالمَرموز.

لا يهم “لافوكا” طريقة وضع الطربوش على رأسه، ولا كيف أو ماذا يلبس من ثياب، ويجهر بأنه بدويّ، ويفتخر بثقافة البدو والبادية ويمتدحها. حاولت مرارًا أن أبدأ معه الحديث، ولكنني أجده مُداومًا على التأمل والتفكير، مُنشغل بتشكيل عرض بضاعته على جوانب دكانه الصغير، ورفع صوت حنجرته مُعلنًا عن تكسير الأثمنة لجلب المزيد من المُشترين. في كل مرة أحاول أن أفتح معه نقاشًا، أجده يوصد الأبواب أمامي ويتفاداني بذكاء دون أن يحرجني. يقفل أمامي كل الأبواب بدهاء شديد، وكأنه يقول لي في قرارة نفسه: “معذرة، أبوابي مُوصَدة وطريقي مسدودٌ، فلا تحاول معي…“.

إدريس الواغيش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *