الرئيسيةإبداعالعناد الأخير: مأساة امرأة أطفأت نور بيتها

العناد الأخير: مأساة امرأة أطفأت نور بيتها

“أيها الإنسان! ما أضيق عينيك إذا نظرت، وما أعمق جهلك إذا حكمت. بين غلوّ العناد وذلّ التخاذل، يضيع العقل، وتتيه الخطى.”

في قرية منسية على كتف الزمان، حيث يختلط ضوء النهار بغبار المعارك الصغيرة، عاشت “زهرة”، امرأة حملت اسمًا لا يشبهها، كزهرة تنبت بين الصخور دون أن تعرف معنى الرقة أو عبير الحياة.

زهرة، بنت شيخ القرية، الذي لطالما نادى الناس بقوله: “الجبال لا تنحني”. ورثت عن أبيها عنادًا أعمى، كالسيف الذي يُشهر ولا يُغمد، لا يفرق بين عدو وحبيب. وكانت ترى في ضعف الآخرين فرصة لتعزيز سلطتها عليهم، وكأنها على مسرح تلبس فيه دور السيدة التي لا تُرد كلمتها.

تزوجت زهرة من يوسف، الرجل الذي كان يراه أهل القرية “ضوءًا خافتًا في عالم مليء بالعواصف”. لم يكن في يوسف ما يثير إعجاب زهرة سوى صبره، ذلك الصبر الذي كانت تراه ضعفًا، ولم تدرك أنه جبل شامخ لا تراه أعينها.

كان يوسف رجلًا يؤمن أن الحياة تُبنى على الحلم والصبر ، بينما زهرة تؤمن أن الحياة حربٌ، والانتصار فيها لا يُكتب إلا للأقوياء. ومع مرور الأيام، كانت زهرة تقلب البيت ساحةً لصراع لا ينتهي، ترفع صوتها، وتكسر جدران الهدوء، كأنها تُعاقب الحياة على شيء لا تعرفه.

في ليلة حالكة، اجتمع يوسف وزهرة حول نارٍ لم تكن تدفئ قلوبهما. قال يوسف بصوت حزين:

“زهرة، إن للبيوت أرواحًا، وإن أرواح الأطفال لا تعيش في بيتٍ تهب فيه العواصف. إما أن تهدئي، أو أرحل، فلستُ حطبًا لحريقك.”

لكن زهرة تشبثت بكبريائها كعادتها، قالت بسخرية:

“إن كنت ترى فيك ضعفًا، فلن أكون أنا من يُغيّرك. الباب أمامك، وسأبقى هنا، سيدة نفسي وبيتي.”

خرج يوسف، ولم يحمل معه سوى صمته، بينما كانت زهرة تجلس كملكة وهمية على عرشٍ من الكبرياء.

مرت الأيام ثقيلة، كأنها حجارة تسقط واحدة تلو الأخرى فوق رأس زهرة. وجدت نفسها فجأة تواجه عالمًا لم تفهمه، كأن البيت الذي كان يعج بالحياة قد أصبح كالقبر الذي تسكنه أشباح الذكريات.

الأطفال، الذين كانوا يلتفون حول يوسف، بدأوا ينفضون من حولها. الديون تتراكم، والألسن تتناقل قصتها كمن يتحدث عن سقوط ملكة. كانت زهرة تنظر إلى المرآة، فترى امرأة كادت الحياة تلتهم وجهها، لكنها كانت لا تزال تتمسك بجدار عنادها، وكأنها تخشى أن تعترف لنفسها بالهزيمة.

ذات يوم، وبينما كانت تبحث عن ابنها الأكبر مروان، الذي هرب بعد شجار طويل معها، جلست زهرة تحت شجرة عتيقة قرب النهر. أخذت تنظر إلى الماء، فرأت وجهها لأول مرة كأنه مرآة لما أفسدته بيديها. قالت بصوت بالكاد يُسمع:

“أيها الماء! أخبرني، أين أخطأت؟ هل كنت جبارة أم كنتُ عمياء؟”

لكن الماء، كعادته، لم يجبها، بل عكس صورتها كما هي: امرأة أضاعت كل شيء باسم العناد والقوة.

عادت زهرة إلى البيت، لكن البيت لم يعد كالأيام الخوالي. كان صامتًا كالمقابر، وجدرانه التي كانت تملأها ضحكات الأطفال تحولت إلى أطلال منسية. كانت تحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، لكنها كانت تعرف في أعماقها أن الزمن لا يمنح الفرصة مرتين.

عاشت زهرة بقية أيامها كظِلٍّ لامرأة كانت يومًا ما قوية. كانت تمشي في القرية، فيشيح الناس بوجوههم عنها، لا عن كراهية، بل عن شفقة. وفي كل ليلة، كانت تسمع في صمت البيت صوت يوسف وهمساته التي لم تفهمها قط يومًا:

“العناد نار تأكل صاحبها، ولا تترك له سوى الرماد.”

هشام فرجي
هشام فرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *