جلست ليلى في غرفتها كما تفعل كل يوم، تتأمل وجهها في المرآة. ذلك الانعكاس الصامت الذي اعتادت عليه بدأ يبدو لها غريبًا؛ كان هناك شيء مختلف، شيء لا تراه ولا تستطيع لمسه، لكنه يملأ قلبها بالريبة. هل كانت تتخيل؟ أم أن المرآة قد بدأت تكشف لها أسرارًا خفية؟
في ذلك اليوم، بينما كانت تمرر أصابعها على وجهها، لاحظت أن انعكاسها لا يتبع حركاتها بدقة. رفعت يدها اليسرى، تأخر انعكاسها برهة، ثم تبعها ببطء. ارتعش قلبها، لكنها تجاهلت الأمر، ظنته مجرد وهم. لكن في اليوم التالي، كان التأخير أوضح، ولم يعد يمكنها تجاهله. ازدادت الدهشة حين لاحظت أن الانعكاس يبتسم، بينما لم تتحرك شفتاها. كانت مرآتها، تلك الزجاجة الباردة الصامتة، قد بدأت تتحدث، ولكن بلغة غريبة، لغة الصمت والإيماءات.
بدأت ليلى تقضي وقتًا أطول أمام المرآة، تبحث في عيني انعكاسها عن تفسير، تحاول أن تفهم ما الذي تحاول المرآة قوله. انعكاسها لم يعد مجرد صورة، بل كيان مستقل، كائن يحمل في عينيه عمقًا وكأنها تنظر إلى شخص آخر، شخص يعرف عنها كل شيء، يعرف حتى الأفكار التي تتجنب التفكير فيها، والأسرار التي حاولت دفنها في قلبها.
بدأت المرآة تكشف لها مشاهد من ماضيها. في البداية، كانت مجرد ومضات، ذكريات صغيرة اعتقدت أنها نُسيت إلى الأبد. يوم لقائها الأول بحبها القديم، ليلتها الأخيرة مع والدتها قبل رحيلها، حتى اللحظات التي جلست فيها وحيدة تبكي في صمت. كانت المرآة تعرض تلك المشاهد كأنها شريط سينمائي صامت، كأنها كانت تسجل كل لحظة عاشتها، واحتفظت بها لتلك اللحظة بالذات.
زاد الفضول في قلب ليلى، وأصبحت تمضي ساعات طويلة أمام المرآة، تتحدث معها بصوت خافت، تسألها عن سرها، عن السبب الذي يجعلها تكشف لها كل هذه الذكريات. ولم يكن رد المرآة سوى صدى عميق في أعماق عقلها. شعرت ليلى أن المرآة ليست مجرد كائن يروي الماضي، بل هي بوابة إلى ذاتها، بوابة نحو تلك الأعماق المظلمة التي حاولت الهروب منها لسنوات.
وذات ليلة، عندما تجرأت أخيرًا على طرح السؤال الكبير، نظرت في المرآة وقالت بصوت مرتجف: “من أنتِ؟” لم تتوقع إجابة، لكن الكلمات خرجت من بين شفتيها كما لو كانت تنادي ظلها. وفجأة، تردد الصدى في عقلها: “أنا أنتِ، أنا الحقيقة التي تخفينها، أنا الماضي الذي تخشينه، والمشاعر التي دفنتِها”.
أدركت ليلى أن انعكاسها لم يكن سوى ظل حقيقي لأفكارها ومشاعرها المكبوتة، تلك التي تجاهلتها، وأخفتها خلف قناع الابتسامات. كانت المرآة تعيد لها ما دفنته، تُعيد لها ذاتها الحقيقية التي طالما تهربت منها.
في تلك الليلة، بعد حديثها الأخير مع المرآة، قامت ليلى وابتسمت لانعكاسها. شعرت بأنها تحررت من حمل ثقيل، وأنها استعادت جزءًا ضائعًا من نفسها. لم تكن المرآة سوى أداة، مرآة صادقة تعكس حقيقتها، تلك التي كانت تخاف رؤيتها.
أغلقت ليلى باب غرفتها، وتركت المرآة خلفها، تاركةً فيها كل مخاوفها وأسرارها.