لا أَنَام… كُلَّمَا أسدلتُ ستائري، مُستنزَفةً، مُمتصَّةً من كُلّ حيويةٍ وطاقة، وباشرْتُ طقوسَ التّرجّي والتوسّل، للّذي يتمنّعُ ويُمعنُ في مُجافاتي، لِيأخذَني في رِكابِه ويُنقذَني مِنْ بَراثنِ الأرق، طَرقَ بابَ نومي صبيٌّ في عُمْر الحُلم والفرح، معفّر الوجه والشَّعْر والثّياب، صبيٌّ بساقٍ واحدة، يَزحفُ على رُكْبةٍ واحدة.. صبيّ يَتدفّقُ كلامُه أوجاعًا مُعتَّقة، فيغرقني في يَمّ الأحزان.. يُشعرُني بالضآلة والاضمحلال.. قُمَّلةً وضيعةً مُجَلَّلَةً بالخِزيِ والعار، أصيرُ في رأس هذا الكَوْنِ المُكْتَظِّ بالهَوَام، في هذا الزمنٍ الطافحِ بالمَكْرِ والخُبْثِ والعُهْرِ والسُّعار…
– ظَمْآن.. تَعْبان.. يا خالة، هَلْ لي بِشُربةِ ماء.. وعَصاً أتَوَكّأُ عليها لِأُتابعَ رِحلةَ بَحثي عنْ ذراعٍ أختي…
– ذراعُ أختِك؟
– رَصَدْتُها، يا خالة، تتدحرجُ في هذا المُنْحَدَر.. لمْ تُسعفْني ساقِيَ الوحيدةُ لِلَّحاقِ بِها…
– وأختُك؟
– في حُفرةٍ على مَقربةٍ من أنقاض بيتِنا، أخفيتُها عنْ أعيُنِ الكلابِ والذئابِ الجائعة…
– في حُفرة؟ وماذا عساك فاعل بذراعها يا ولدي؟
– أَضُمُّها إلى أشلائِها.. الذراعُ، التي حَضنَتْني في ليالي الرُّعبِ الطويلة.. يا خالة، لا بُدّ مِنْ إكرامِها بِدَفنِها…
– وأين وَالِدَاك؟
– كوْمةَ لحْم.. عَزلوها مِنْ بينِ أرطالِ اللّحم، التي غطّتِ الأرضَ وسَقَتْها بِدمائها.. عزلوها، يا خالة، ووضعوها في كيسٍ بلاستيكيّ، وقالوا: هاكَ والدَك…
– آهٍ يا وجعَ القلب! وأمُّكَ يا ولدي؟
– أمّي.. بلّطُوا بِها دربَنا.. لمْ نميّزْ بين حصاهُ وعظامِها..
– بلّطُوا الدربَ بِها!؟
– سترتْ صبيةً.. بنتَ جارتنا وخبّأتْها.. عاريةً.. استجارتْ بِنا.. حتى ورقةُ التوت نزعُوها.. وَدُّوا، يا خالة، قطفَ زهرتِها… فقأتْ عينَ وحشٍ جائع.. أصابتْ آخرَ في مَنْبِتِ فحولتِه إصابةً فادحة.. سَحَلُوا أمّي.. رقصتْ على جسدها دبّابةٌ.. رقصةً وحشيةً طويلةً أفرغتْ فيها كلَّ شرورِهم وأحقادِهم..
– آهٍ يا ولدي، وجعُك يُفتّتُ قلبَ الحجر! والصّبِية؟
– قلبُ البَشرِ أقْسى منْ قلبِ الحجر.. يا خالة، قطفُوا زهرةَ الصَّبِيّة.. اِعْتصَرُوا رحيقَها إلى مَطلعِ شَهْقَتِها الأخيرة.. ثُم أحرقُوها…
– أحرقوها؟!
– في بيتنا يا خالة.. غسلوها.. بالبنزينِ غسلُوها.. وأَشعلُوا…
– حطبُ جهنم.. عليهمُ اللعنة. وساقُك، يا ولدي؟
– ساقِي.. قَطفُوها يا خالة…
– قطفوها!؟
– حَسِبوها بندقيةَ كَلاشْنِكُوف تَدِبُّ على الأرضٍ فقطفُوها.. طاخ.. طاخ.. طاخ…
يا خالة، أصابهمُ الجنونُ والسعارُ.. يَقطفون كلَّ شيءٍ يَتحرّك.. حتى العصافيرُ الحالمةُ يَحسِبونَها قُوّاتٍ مُعاديةً ستُمطرهمْ حجارةً، فيُطلقون عليها.. طاخ.. طاخ.. طاخ… والأحصنةُ الوديعةُ الخَدومة، التي تجرُّ العرباتِ المُحَمَّلةَ بِأكياسِ الدّقيق، يَحسبونها دبّابّاتٍ متأهّبةً للهجوم.. طاخ.. طاخ.. طاخ…
– مَنْ هؤلاءِ يا ولدي؟
– وحوشٌ ضارية.. على صدورهمْ تومضُ نجومٌ.. وعلى أَذْرُعِهمْ تُرفرفُ أعلامُ مِللٍ مختلفة…
– وحوشٌ ضارية.. مِللٌ مختلفة.. كأنّي أَعرفُهمْ يا ولدي.. مِنْ أين أنت؟
– أنا مِنْ هناك، يا خالة…
– أينَ ألْ هناكَ، يا ولدي؟
– هناك.. مَنْبِتُ العِزّة.. مَنْبِتُ الأحرار.. مَطْمَعُ الوحوشِ المُتعطِّشةِ إلى دمائنا.. الوحوشُ التي تُصفّينا بالجملةِ والتّقسيط… أخبارُنا وصورُنا تملأُ كلَّ بيوتِ العالم.. ألَمْ تَسمعوا وتُشاهدوا يا خالة؟
– آهٍ يا ولدي، سمعْنا وشاهدْنا و…
– سمعتُمْ وشاهدتُمْ؟
– وصَمتْنا.. لمْ نُغيّرْ إيقاعَ حياتِنا وعاداتِنا.. أَقمْنا ولائمَنا وأفراحَنا وحفلاتِنا ومسابقاتِنا ومَهرجاناتِنا… طَرِبْنا ورَقصْنا…
– وقُلتُمْ: مُسْتَراحٌ مِنهُمْ.. آهٍ يا خالة، لوْ تَعلمينَ كَمْ آلمَنا طَربُكُمْ ورقصُكُمْ، ونحن، على مرمى بصر، نَفْنَى جوعاً وعطشا.. تُنصَبُ لنا الكمائنُ والفِخاخُ في المنازلِ والخيامِ والملاجئ.. في المدارسِ والمساجدِ والمستشفيات… نُبادُ يا خالة…
– يا ولدي، نحن المُستراحُ مِنّا.. نحنُ الأمواتُ.. هلْ يُلامُ الأمواتُ أوْ يُرْجَى منهمْ قولٌ أو فِعلٌ؟
– أمواتٌ تَأكلونَ وتَشربون! تَفرحونَ وتَحتفلون! تَطْرَبونَ وتَرْقُصون!
– تلكَ جُثَثُنا المُتفسِّخة، يا ولدي.. نحنُ أمواتٌ منذ عقودٍ مِنَ الجُبنِ والغدرِ والخيانةِ والخذلان… أمواتٌ منذ بَيْعِنا الأوّل.. لَمّا جاء الطُّوفانُ وما أَعْقَبَهُ مِن مَجازرَ واستنزاف، كُنّا قد تَعفّنّا وتَفسّخْنا تماما، وأَشبعَ جوعَهُ الدّودُ مِنْ لَحْمِنا.. نُحنُ المُستراحُ مِنّا يا ولدي…
خديجة أجانا