تتميز كتابات الأستاذ عبد الله العروي بالغنى النظري والمعرفي، وهي قائمة على التحليل والتفكيك والتركيب، ولعل هذا المنهج هو الذي يجعل القاريء يشعر بالقصور أثناء قرائته لأعمال العروي ويشتكي من الغموض، أما مناقشته فهي أكثر صعوبة مما يتصور. وتزداد هذه الصعوبة مع ما يطرحه مفهوم التاريخانية عند العروي من التباسات، فهذا المفهوم محوري لديه، وقد ارتقى به إلى مكانة البرنامج الذي وجب الارتكاز عليه للنهوض بالمجتمعات المتخلفة -العربية تحديدا- قصد الخروج من التأخر واللحاق بركب الأمم المتقدمة.
يمكن عَدُّ تاريخانية العروي رَدَّ فِعْلٍ تجاه واقع التخلف التَّاريخي العربي، وليس غريبا أن يجعل الإيمان بالتاريخ والفكر التاريخي شرطا للحداثة. لا تتحقق التنمية والحداثة في نظر العروي إلا بالقطيعة مع التقليد والفكر السلفي والنزعات التراثية التوفيقة والانتقائية وتبني قيم اللبرالية، وهذا ما جلب عليه انتقادات كثيرة سواء من دعاة الاشتراكية أو من دعاة التراث، لكن المساجلة التي اشتهرت بنقد أطروحة التاريخانية ومواقف الأستاذ العروي من اللبرالية والسلفية والتراث تعود إلى الأستاذ محمد عابد الجابري، بدأها في السبعينيات واستمرت إلى فترة الثمانينيات. ففي كتاباته ومواقفه قارع أفكارالعروي، وإن لم تحضر الأسماء بشكل صريح دائما.
يقف الكتاب الصادر عن دار توبقال للنشر ( ماي2014) بعنوان في نقد التاريخانية: بين الجابري والعروي للباحث في التاريخ خالد طحطح على ظاهرة غياب الحوار بين المثقفين المغاربة حين يكون الأمر متعلقا بالنقد المباشر والاختلاف في المشاريع الفكرية، ولم يكن الأستاذ عبد الله العروي الوحيد الذي لم يكن يتفاعل مع منتقديه أو مؤيديه، فالأستاذ محمد عابد الجابري بدوره تجاهل كل الذين دخلوا في حوار نقدي مع مشروعه الفكري.
قد يبدو للبعض أن السجال الذي بدأه محمد عابد الجابري في نقد تاريخانية العروي أصبح الآن متجاوزا. لكن الأمر ليس كذلك، فنحن نعلم أن الجابري أعاد نشر مقالاته النقدية ثانية في سلسلة مواقف. ونفس الأمر يُمكن قوله عن العروي الذي، وإن لم يرُدّ بشكل مباشر على مقالات الجابري، إلا أنه ضَمَّن في خواطر الصباح الذي طبع سنة 2003 وأعيد طبعة في السنوات الأخيرة تلك الفقرات التي تنتقد الجابري وإن دون ذكر اسمه.
لقد قدم العروي في كتاباته قراءة للواقع العربي تحديدا ودعا إلى ضرورة تجاوزه، وصاغ ما اعتبره بدائل ممكنة من وجهة نظره، وقد اشتكى في بداياته من عدم اهتمام الباحثين بكتاباته، لكنه حين تعرض للنقد من طرف الجابري اختار لغة الصمت بدل المحاججة، وهذا ما يجعلنا نعود مُجددا إلى إثارة النقاش الذي صاحب مفهوم التاريخانية عند العروي الذي اصطدم بأطراف متعددة حين طرح مشروعه الفكري، ونجد راهنية هذه العودة في خفوت صوت النقد والنقاش الفكري في زمننا، حيث نفتقد بشكل كبير ثقافة الحوار البناء.
العروي والجابري على طرفي نقيض في مسألة رؤيتهما للتراث والحداثة، وهو ما يبينه الفصل الأول من كتاب خالد طحطح والذي عنونه بـ الجابري والعروي: سيرة متقاطعة، ولعل اختلافهما يعود في جزء منه إلى اختلاف مسارهما العلمي وتباين تجربتهما، وهو ما بينه المؤلف في محور الجابري والعروي سيرة متوزية ضمن القسم الأول دائما. ففي الوقت الذي يؤكد فيه الجابري في نقده للتراث على فكرة الوصل لا الفصل، نجد العروي -وعلى خلاف ذلك- يعتبر التراث مميتا وميتا في ثقافتنا، فبَنا على قوله هذا فكرة ضرورة القطيعة التي ليس منها بد.
استهل الباحث خالد طحطح كتابه بمدخل هام تناول فيه دلالات مفهوم التاريخانية عند الفلاسفة الغربيين، ودقق في معانيه المُختلفة، مميزا بين التاريخية والتاريخانية من جهة، وبين كرونوزوفيات فلسفة التاريخ والتاريخانية من جهة ثانية، وتوقف عند الانتقادات التي وجهت للغائية وللتاريخانية الألمانية الرانكية خاصة من مدرسة الحوليات، وبين مواقف نيتشه وفوكو وكارل بوبر النقدية تجاه المفهوم الذي تبنى لفظه الأستاذ عبد الله العروي بعد أن ألبسه معنى جديد ودلالة جديدة.
عرف الفكر الغربي خلال القرن التاسع وبداية هذا القرن العشرين – وهي الفترة التي أخذت فيها العلوم الإنسانية تستقل عن الفلسفة لتشكل علوما قائمة الذات- اتجاهات فكرية، يحاول كل منها تفسير الظواهر الإنسانية من زاوية خاصة. وهكذا ظهرت عدة نزعات: منطقية، تاريخية، سوسيولوجية، سيكولوجية، تعطي الدور الأول للجانب المنطقي، أو التاريخي، أو السوسيولوجي أو السيكولوجي، عند تفسيرها للحوادث والظواهر الإنسانية، بمختلف أنواعها؛ فالنزعة التاريخية- أو ما يسميه العروي بالتاريخانية- هي نزعة فكرية-فلسفية، تعطي للتاريخ الدور الأول عند تفسيرها للحياة البشرية الفكرية والمادية.
يطرح مفهوم التاريخانية كما تبلور في مذاهب فلسفة التاريخ التباسات جمّة، ولا زال العروي يُحدد التاريخانية ويُعيد تعريفها كلما سنحت له الفرصة، لكنه في النهاية أخذ التاريخانية كمنهج تاريخي لا كنظرية فلسفية، وهذا ما حرَّر المفهوم من حمولاته السابقة التي التصقت به مع فلاسفة ومؤرخي القرون السالفة. فغدت التاريخانية وعيا بمنطق التاريخ، وقد ربطها العروي في كتابه الايديولوجيا العربية المعاصرة والعرب والفكر التاريخي بتجربة التأخر والتخلف. فهي بهذا المعنى “لا تقبل المعارضة أو التجاوز”.
يعترف الجابري بأن كتابة الأستاذ العروي من الكتابات المكثفة، وبتعبير أدق فهي ملغومة ومبهمة، ولذا فهي تستلزم من القاريء العادي قرائتين على الأقل: قراءة فهم واستيعاب، وقراءة تفكير وتأمل. ومن أجل أن يتمكن الذين لم يقرأوا العروي بالمرة، أو قرأوه قراءة سريعة، يمنحكم الكتاب تتبع تفاصيل المناقشة التي بادر بها الأستاذ الجابري، ومن خلالها تتضح ملامح الاختلافات بين الرجلين فكريا وسياسيا وإيديولوجيا.
عرض الجابري ملامح المشروع الإيديولوجي الذي اقترحه الأستاذ العروي، وذلك على مرحلتين: اقتصر في المرحلة الأولى على عرض أفكاره عرضا مصحوبا ببعض الملاحظات والتعليقات، وانتقل في المرحلة الثانية، إلى إبداء رأيه، بكيفية مركزة، في هذا المشروع ككل.
دعا الأستاذ العروي بحرارة إلى ضرورة النقد الأيديولوجي، فهو يؤكد أن “الواجب على مثقفي الدول المتخلفة تعميم النقد الإيديولوجي، كي لا ينحدروا إلى أسفل درجات الخلط”. دعوة يتساءل الجابري: هل تمكن الأخ العروي نفسه، في محاولاته النقدية، من تجنب هذا الخلط؟
نجد جواب هذا السؤال في الفصل الثاني من كتاب في نقد التاريخانية لخالد طحطح.