تحدث إلى نفسه طويلا، حاول أن يقنع الخُيول الجامحة في خلايا دماغه بأن في الصَّبرِ على ما يكرهُ خيرًا كثيرا، وأن أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا، لكن هيهات هيهات فقد استبَدّ به الغضب فجأة ولبسته كل شياطين الدنيا، ولم يعد قادرا على تحمّل ما يجيش به صدره من إحساس بظلم خفي لا يعرف مصدره أو مكامنه،
فهو متفجر كبركان هادر بحمم كاوية حامية، أو نَارٍ تتلظى تحرق ربيع نفسه.
نظر إلى الاستدعاء التي تسلمها من عون المصلحة منذ حين، للمثول أمام المجلس التأديبي بعد يوم الغد، لعن الظروف التي ألقت به بين أيدي من لا يرحم ولا يتفهم، عندما سأل العون عن مصدر الاستدعاء، أخبره أنه تسلمها من مكتب الضبط وهي صادرة عن رئيس المصلحة.
“جُلّهم فاسدون، ومن لا يسايرهم ينتهي به الأمر إلى وضع شبيه بوضعه، منبوذ، مرفوض و متمرد على القانون الداخلي الذي يتلاعبون ببنوده بشكل يخدم مصالحهم ويحاصر كل من يحاول أن يقول كلمة: لا ”
سألته زميلته في العمل وهي سيدة على أعتاب الستين:
-ما بك يا ولدي ؟ تبدو مضطربا
ردّ عليها :
-يبدو أنّ القذف بي إلى مكتب الأرشيف لم يشفِ غليلهم فقرروا تقديمي أمام المجلس التأديبي.
ضحكت الكهلة، وقالت:
-هذا المكتب هو مقبرة العصاة ، والمجلس التأديبي مجرد تحصيل حاصل للتثبيت وكسر الضلوع حتى لا ترفع الرأس لاحقا، لقد سبقتك إلى هذا الوضع مند عشرين عاما.
ارتسمت معالم الدهشة على وجهه وهو يصغي إلى رد زميلته في المكتب، التي استدركت:
-لا تستغرب الأمر! هناك أليات ونظام يسير وفق نسق خاص عليك أن لا تخرج عليه، لأن ذلك ضد مصلحتهم، عليك التصرف بغباء وتفاهة وستكسب الرضى والقبول .
قاطعها بصوت تشوبه رنة غضب:
-لا أستطيع يا سيدتي القبول بوضع الانبطاح والخضوع ولو دفعت حياتي ثمنا لذلك.
في اليوم الموالي، ارتدى أحسن بدله، وهو يستحث الخطى نحو بناية الإدارة العامة، ليمثل أمام المجلس التأديبي وهو يشعر في قرارة نفسه أنه مكتوب عليه محاربة قوى خفية تتخَفّى خلف وجوه آدمية مُتغولة.
تردد لحظة قبل أن يتوجه نحو حارس الأمن سائلا عن مكان المجلس التأديبي، ابتسم الحارس في وجهه وقال:
-اعقلها وتوكّل على الله، فلها مدبّر حكيم.
زرعت كلمات حارس الأمن شيئا من الطمأنينة في نفسه، وهو يوجهه نحو مكتب “الحساب والصراط”، قطع المسافة من الباب الرئيسي حتى واجهة المكتب المقصود وهو يتلو بصوت خافت “المعوذتين” على إيقاع نبض قلبه المضطرب.
“تبا لك يا زمن المتأمعين المتحذلقين، أعليت التفهاء وخذلت النبهاء”
تصنّع التبسم وهو يحيي الساعي الواقف أمام باب المكتب.
-لدي استدعاء للمثول أمام المجلس التأديبي
-مرحبا، يمكنك الانتظار بعض الوقت حتى بداية فترة المثول
جلس في الجهة اليمنى للمقعد الخشبي المقابل لباب المكتب، كان هناك شخص أخر متكوما فوق مقعد مجاور، وقد بدا متجهم الأسارير، يبدو أنه أيضا من العصاة الذين سُلّط عليهم سيف دموقليس، وعليه أن يوجه مصيره المحتوم.
دام الانتظار ساعة ونصفا، ثم نادى عليه الساعي بصوت حادّ:” علي بن الحسين، تفضل بالدخول”
قام من مكانه، بأطراف مرتعشة ووجه منقبض شاحب، ولج المكتب، كانت توجد طاولة ضخمة التئم حولها ثلاثة أشخاص أمامهم حواسيب وملفات، طلب منه أحدهم وكان كهلا ضخم الجثة، أن يجلس فوق كرسي يبعد عن الطاولة بمسافة تقارب ستة أمتار، جلس وهو مطرق للأرض، قال له الكهل :
-قدم لنا نفسك
تلعثم في الجواب وهو يقول:
-اسمي علي بن الحسين موظف ملحق بأرشيف المصلحة، التحقت بالعمل منذ عشر سنوات.
فتح الكهل ملفا من الملفات المتراكمة أمامه وسحب منه ورقة، تصفحها حينا ثم قال بصوت ساخر:
-ملفك تفوح منه روائح العصيان، وعدم احترام القانون الداخلي للمؤسسة التي تنتمي لفريقها، هناك شكايات متعددة بك من طرف المرتفقين و زملائك في العمل، أما رؤساؤك فحدّث ولا حرج، فما ذا تقول ؟
-أقول حسبي الله ونعم الوكيل، هذا الكلام زور وبهتان، وتصفية حسابات لأنني رفضت المشاركة في بعض الممارسات البئيسة لهؤلاء الزملاء، ولم أقبل الانخراط في لعبة الفساد المقنع وسياسة التدجين المبني على القبول بسياسة الأمر الواقع.
قاطعه عضو أخر وهو شاب وسيم يرتدي بدلة بلون أصفر فاقع قائلا:
-كلامك يتضمن سيلا من العموميات، وكثيرا من السفسطة…
لم يتركه يكمل كلامه، وهتف بحماس وشجاعة لم يعرف كيف ظهرا عليه فجأة:
-كلامي في الصميم أيها السادة، أخطبوط الفساد ضارب أطنابه في كل مكان، ولا أحد قادر على الوقوف أمامه، وأنا وأنتم جزء من نسقه الجهنمي الذي تغلغل في عروق أغلب المؤسسات، الفرق الوحيد بيني وبينكم أنني أنا الضحية وأنتم الجلاد.
ساد صمت مباغت الأجواء، تبادل خلاله الأعضاء الثلاثة الهمهمات والهمسات، ثم خاطبه الكهل بصوت هادئ:
-أظن أن نقلك لقسم الأرشيف يمنحك فرصة للتصالح مع الذات، ومع العالم، فتعيد ترتيب أوراقك، وتفهم أن الانسان بطبعه أنانيّ والنفس البشرية نزاعة للفوضى، ولا بد من موافقة هذا الإنسان على أن يخضع لسلطة قانونية مطلقة، ممّا يعني عملية تفويض جماعي يقوم بها الناس، يوافقون من خلالها بالتنازل عن حريتهم أو حقهم الطبيعي في الحكم السياسي على حد قول توماس هوبز .
قاطعه قائلا:
-استشهادك بتوماس هوبز، معناه القبول بالخضوع والرضوخ لسلطة مطلقة لا تسمح للصوت المعارض بممارسة حقه في الاعتراض على سياسات الإقصاء والقمع الممنهج الذي يخدم فئة على حساب أخرى.
ابتسم الكهل الضخم الجثة وقال:
-يمكنك الانصراف وسنكتفي بلفت” نظر” مع بقاءك في قسم الأرشيف.
غادر المكان، وعندما احتضنه الشارع تنفس الصعداء، رفع رأسه إلى السماء، تملت عيناه بصفاء اللون اللازوردي، ثم جال ببصره في جوانب الشارع الذي كان شبه فارغ ، لأن أغلب البنايات المتواجدة كانت عبارة عن مغاني بحدائق خضراء وواجهات ذات معالم تجمع بين سحر التصميم المغربي الأندلسي ولمسة العمارة الغربية الحديثة، في تناسق يستهوي النفس، ويرضي الذائقة.
“الزمن مرّ، ومرارته تجعل الحياة لا تطاق في ظل هذا التفاوت اللامنطقي الذي تفرزه الطبيعة، لهم كل شيء ولنا اللا شيء”
تعثر في خطاه عدة مرات وهو يسير على غير هدى، تتجاذبه أفكار متناحرة لا تكاد تستقيم على أمر، وتتنازعه مشاعر مضطربة تخرب الذات وتدفع به نحو هوة الإحباط.
عندما انتبه من غيبوبته وجد نفسه أمام شاطئ البحر، لفحت وجهه نسمات هواء باردة مشبعة برطوبة منعشة، اندفع بكل قواه نحو البحر، أحس بلذة غريبة عندما لمس رذاذ الموج وجهه وغسلت المياه قدميه. وتنشق رائحة البحر اللذيذة، كانت الشمس توشك على أن ترحل، وقد بدت قرصا أرجوانيا يغوص في أحضان السماء، تاركا حمرة شفقية ساحرة..
“يا رب السماء ما أروع منظر الغروب ، ما أجمل البحر، وما أعذب هذا النسيم الرقيق… إنها هِبات قدسيّة منك، تطفح بالجمال نَحمدُك عليها، .
لكن يا رب هذا القبح الذي نصطدم به يوميا، والنّتانَة والعَفن اللذان يُحيطان بنا في كل مكان، من يَهبهما لنا بغير حساب!؟؟.. لَست أنتَ على كل حال، فأنت جميل وتحبّ الجمال”
عندما عاد إلى شقته كان التعب قد نال منه، ارتمى على سريره واستسلم لنوم عميق، داهمته أحلام متضاربة يختلط فيها المقبول أخلاقيا بغير المقبول، رأى توماس هوبز يركب جودا أسودا ويطارد الكهل الضخم الجثة وهذا الأخير يحاول الاحتماء به. ورأى امه تحمل طبقا يحتوى على فواكه جافة متنوعة، وهي تطلب منه ملء جيوبه وأخد ما استطاع من الفواكه، وتقول بصوت هامس:” تزود يا بني ..فالطريق مازال طويلا أمامك ولن يرحمك أعداءك”.
استيقظ في صباح اليوم الموالي ، وأثر التعب ماتزال بادية عليه، دخل الحمام وأصلحه حاله ثم خرج قاصدا مقر عمله، في الطريق أفطر بمقهى ” رجا في الله” التي تعود أن يتناول بها طعام إفطاره، عانقتْ عيناه كالعادة الوجوه البئيسة التي تؤثث فضاء المقهى، اكتفى بالابتسام وهو يتبادل التحية مع بعضها.
دخل مكتب الأرشيف، كانت كلمات الكهل الضخم الجثة لاتزال تتردد على مسامعه:” أظن أن نقلك لقسم الأرشيف يمنحك فرصة للتصالح مع الذات، ومع العالم، فتعيد ترتيب أوراقك” ترى كيف سيعيد ترتيب أوراقه ؟
هتفت زميلته في المكتب قائلة وهي ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة:
” لعل توماس هوبز سيساعدك على إعادة ترتيب أوراقك”
نظر إليها باندهاش وقد فغر فاه، ثم قال: ” أنتِ أيضا من أتباع توماس هوبز…” وانخرط في نوبة ضحك حتى استلقى على قفاه وسالت دموعه.
“توماس هوبز هو كلمة السر لدخول زمرة المدجنين والقبول بلعبة إعادة ترتيب الأوراق ”
الهامش:
توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصا في المجال القانوني