قيل ويقال حوْل العربي المهاجِر، وبالتخصيص المسلِم المهاجر، هربًا من فقْر لوح أفئدة الناس، ومَحَق رُؤاهُم، وسَحَق تطلعاتِهم، وكأنِّي بمَن يتحدَّث عنهم، يودُّ لو يحملهم أمانة الأمَّة والتاريخ، والدِّين والحضارة، أو أن يضعَهم على فاصلٍ شديدِ الحساسية في النظر إلى مسألةِ الثبات على المبادِئ، والانتماء إلى الماضي الذي عاشَه المسلمون سابقًا، والعرَب والمسلمون حديثًا، وكأنَّهم يَملِكون الكثيرَ من الخيارات والفُرص، أو أنَّه يسود اعتقاد بأنَّ أمانات الأمم والشعوب لا محلَّ لها ولا وجود إلاَّ في رِقاب المهاجِر الذي خرَج دون أن يَملكَ مِن حقه الحصولَ على كرامة الامتناع عن الحاجة لمعدَّات أطفالٍ، يتضوَّرون ويَلُوبون جوعًا وفقرًا وحاجة، وكأنَّ بمَن دفعه خارج الوطن، يُطالِبه بحمْل أمانة الدفْع والطرد بطريقة لم يحملْها هو أو مَن هم مثلُه منذ فترات طويلة.
لم يدفعني لهذا الكلامِ سوى رؤيةِ الناس هنا في أرْض المهْجَر، رؤية العائلاتِ والأفراد كيف يتحوَّلون مِن منطق العرَب، إلى منطِق الغرْب، ومِن عذوبة عاداتنا وتقاليدنا، إلى الانحلال حتى من الخُلُق الذي يمكنه أن يُؤطِّر العادة، ويتعهَّدها بالرِّعاية والنمو؛ كي تكونَ حارسًا منَ انهيار، أو مِن تلاحُقِ السقوط وتمكُّنه.
ورؤيتي للدُّول الإسلامية التي مَنَّ الله عليها بحُمْر النَّعَم، وهي تستورد الأيدي العامِلة من بلدان لا تمتُّ للدِّين أو العادات بصِلة، وتُقصِي عن عمْدٍ وقصْدٍ كلَّ أملٍ لمسلِم بتلك النعم، وإن كنا بفضل الله ورحمته لا نحمل حقدا أو ضغينة على تلك الدول، فذلك ليس مِن منشأٍ مدروسِ الأسباب والنتائج، بل مِن فِطرة لا تستطيع الانفلاتَ مِن حبِّ الأصْل والمنشأ، والوَحْدة في الدِّين والتاريخ، والعاطفة والإحساس، ولكن لا يمكن تجريدُنا من شعور السخْط واللوم والحَسْرة؛ لأنَّنا في لحظة المحاسَبة للتجريد، سنكون مُجْبَرين على استبدالِ التجريد بالبُغْض والكراهية والحِقد، وهذا ما نسأل الله أن يُبعِدنا عنه حتى يُقضَى الأجَل في يومٍ معلوم.
كثيرٌ من القصص ستُرَوى حولَ هذا، لكن البَدْء بالرِّواية عن اليومِ الذي كان لا بدَّ فيه من دخولِ الكنيسة، هو أول الاختيارات وأسْماها.
كنَّا قد خلعْنا أنفسَنا من الوطن، ليس هربًا من موْت أو شهادة، ولا الْتجاء لأمنٍ مفقود فوقَ الثَّرى الموزَّع على مساحات الألَم والوجع والدمار، بل من وطنٍ تشابكتْ فيه الاعتقاداتُ، واختلفتِ الرُّؤى، إلى حدِّ أنَّنا لم نتمكن أن نَرَى إنْ كان ثرَى الوطن قد بقِي تحت أقدامنا أم انزَلَق، كانتِ الصدمة من كلِّ النواحي أكبرَ وأعظمَ مِن أن يستوعبَها عقل جاهل أو أحْمَق، فكيف بعقلٍ يستطيع أن يرَى ويُفكِّر؟!
أفَقْنا فوجدْنا أنفسَنا عُراةً من كل شيء، من التاريخ والثورة، والأخلاق والوطن، حتى إنَّنا كنَّا عُراة من أنفسنا، مِن ذاتنا التي كانتْ ترفد انخسافَنا بلحظاتِ الضعْف بقوَّة تُمكِّننا من النهوض والوقوف، لكنَّنا حين أفقْنا قبلَ الرحيل، أدركْنا بأن الأمر لم يعد كما كان، وأيقنَّا بأنَّ الوطن لم ينزلقْ مِن تحت خُطواتنا، بل سُحِب لنبقَى معلَّقين بالهواء، فإن وافقْنا على شكلِ العقل والوطن الجديدين، أُعيدتِ الأرضُ لنرتكِزَ عليها، وإنْ رفضْنا، فإنَّنا لا نعلم مكانَ السقطة أين ستكون؟
لملمْنا جِراحَنا، ونحن معلَّقون بالهواء، لعَقْنا دماءَنا، شربْنا دموعَنا، عضضْنا على الوجعِ عضةً نَمر أو أسد، كنَّا نحاول الوقوفَ في الهواء لفترة أطول، الانتصاب في مراكزَ فاصلة بيْن الموت وبيْن الحياة، بيْن الوطن أو السقوط ببُقعة لم تكن ضِمنَ الحسابات أو التوقُّعات مِن بعيد، كنَّا نطارد رغيفَ الخبز، وأنا أعْني ما أقول، رغيف الخبْز فقط، دون الطمَع بلحْم أو لبن، أو حتى بصحنِ فول أو حمص أو قُرْص فلافل، لكن معادلة المطارَدة كانت أعلَى من قدراتنا، وأقوى من إمكاناتِنا، الرغيف أسرع منَّا بالاختفاء والتخفِّي، ونحن كنَّا قد وصلْنا إلى مرحلةِ الإرْهاق القُصوى، بحثْنا عن أطفالنا، فوجدناهم فاغرين الأفواه، معلّقين بالدهشة والذُّبول، بتحطُّمِ ملامحهم، وعلامات الحياة بوجوهِهم، فكان علينا أن نَسير في مسارٍ واحد، لم يكن غيرُه موجودًا أو مطروحًا، فقد بحثْنا برُوح متوثِّبة للالْتِصاق بالوطن، وبعزم الأولياء للوفاء للأرْض، لكنَّنا لم نجد أمامَنا سوى مسارٍ واحِد، فتَحَه الوطن لنا، كان مسارًا يقود إلى الهِجرة، فهاجرْنا.
بعد تَرْحَال وعَناء، من عاصمة إلى عاصمة، ومن مطار إلى مطار، وصلْنا مملكةَ النرويج، ألْقَيْنا متاعَنا على أبواب الذلِّ والإهانة، ووقفْنا كما وقَف أجدادُنا طالبين اللجوءَ مِن قسوة الحياة، وظلم الأهل والأقارب، فمنحْنا حقَّ البقاء للنظر في قضيتنا، ووزعنا على مخيمات لجوءٍ متفرِّقة، وكان مِن نصيبي المخيم الواقِع في جنوب النرويج، والذي يحمل اسم “مخيم نارلند”.
لم نكنْ نعلمُ آنذاك أنَّنا على أبواب أمور كثيرة، لم نسمعْ عنها من قبل، ولم نتوقَّعْ أن نتصادَم معها بأي طريقةٍ من الطُّرُق؛ ولأنَّ اللجوء يعني لفئاتٍ معينة معانيَ يُحدِّدها عقلهم الموبوء بالانهيارِ والانحطاط، فقد كانتْ ملامح المستقبل الذي ينتظرُنا تبدو مِن خلال الستائر المزاحة قليلاً عن وجهِ المستقبل الذي سنمرُّ به خطوةً وراءَ خطوة.
حين يسود الاعتقادُ الجازم بأنَّك قادم من أرْضِك لعجز قائم بالأرض التي أتيتَ منها، وبالحضارة التي دفعتْك خارجَ أحشائها، يكون من السَّهْل أيضًا الاعتقاد اليقيني أنَّك جاهزٌ لبيع ذاتك لأيِّ مارٍّ من جوارك، دون النظر للثمن المدفوع، ودون الالْتِفات للماضي الذي قدمت منه، واتصلتَ به كلَّ مراحل حياتك.
مِن هذا المعتقَد، كانتِ المحاولات التنصيريَّة تبدأ من اللَّحْظة التي تدفع حقائبك إلى أرْض الغُرْفة التي منحتْ لك لتقيمَ فيها، فبين (شهود يهوه) الذين يقتحمون عزلتَك وتاريخك، وبيْن أنصار الكنيسة الذين يملكون أسلوبًا واعيًا لاستدراجِك مِن أجل التنازُل عن كلِّ ما تملك، وأعز ما تملك.
أمَّا (شهود يهوه)، فسيكون لي جولة أُخرى للكتابة عنهم؛ لأنَّني لم أر في حياتي أسلوبًا أكثرَ دناءةً وانحطاطًا من الأسلوب الذي يتبعون، وهو ما سأكتُب عنه لاحقًا بأدقِّ التفاصيل.
لكن القصَّة التي بها سأبدأ، بدأتْ مع وجودِ شخْص نرويجي، كان يزور المخيَّم ويَلْتقي مع الشباب المسلِم، في محاولة منه لإظهار رُوح المساعدة والتعاطُف مع الناس الذين حاقَ بهم الظلمُ، فأصبحوا لاجئين، لم يتمتَّعْ بأي ذكاء أو حصافة، إلا أنَّه استطاع بطريقةٍ ماكِرة أن يَدخل في مشاعِرِ الناس دون أن يُوحي لهم بأنَّه يضع خططًا من أجل الذَّهاب بهم إلى النصرانية.
ومع تقدُّم وتوثق الصِّلات به وبزوجته، كان العرْض يومًا على مجموعة من الشباب أن تذهب للكنيسة للتفاعُلِ الاجتماعي، والتعرُّف على طُرقِ العبادة النصرانية، وتم تأمين المواصلات لهذا الغرَض، وطبعًا وضعت بعضُ المُلْصَقات حيث يمكن لكلِّ اللاجئين رؤيتها، وحين شاهدتُ مجموعةً مِن الناس تودُّ الذَّهاب، وكنتُ أعرِف مدى ضعفِهم في العلوم الدِّينيَّة، والحجج المنطقية، فقد آثرتُ الذَّهابَ معهم بعد أن عجزت عن ردِّهم عما هم فيه.
وصَلْنا الكنيسة بعدَ المغرب، وهي ليستْ بعيدةً عن مخيَّم اللجوء، في مدينة تُدْعَى “برينا”، واسم المدينة يستخدم في النرويج على منطقة لا تتعدَّى شكل القرية أو ما هو أقل مِن ذلك في البلدان الأخْرَى، دخلْنا، فوجدْنا مجموعةً من اللاجئين قد سبقتْنا إلى هناك، لكنَّها من مخيَّم آخر أو مكانٍ آخر، لا صِلةَ له بالمخيم، وكان بعضُ النرويجيِّين، وبرفسور في عِلم اللاهوت النصراني.
على بُعْدٍ كانت بعض القهوة وبعْض من حلويات وكعك، بالإضافة إلى القليل من الشاي وبعض المكسَّرات، وحين أخذْنا موضعَنا في الجلوس، مُرِّرتْ علينا ورقة من أجل توقيعها، وحين سألتُ عنها تبيَّن أنَّها موافقة منا للانضمام إلى دورة تعليميَّة في الإنجيل ومبادئ الدِّين النصراني، كنتُ أولَ الجالسين، مما يَعْني أنَّني سأكون أولَ الموقِّعين، لكنني رفضتُ التوقيع ومررتُها لمن بعدي؛ اعتقادًا مني أنَّهم لن يُوقِّعوا كما فعلت، لكنَّهم وقعوا وهم يبتسِمون ويسخرون ممن وضَع الفِكرة وصَمَّمها.
بدأ البرفسور حديثَه بشرحٍ غريب ومستهجَن، لا تقترب درجاتُ الغباء أو الحماقة منه، فقد صرَّح بأنَّ القهوة والحلويات، والكعك والشاي، تُكلِّف مبلغًا من المال قدرُه كذا، وإنَّه يتوجَّب علينا الدفع، لكن؛ لأنَّ العائلات النصرانية الطيِّبة والتي تُدرِك حجمَ المأساة والمعاناة التي نحن فيها، فقد تبرَّعوا مِن مالهم بالمبلغ كلِّه؛ لذا فإنَّنا غير مطالبين بالدفْع، أو حتى التفكير في الدفْع.
تحدَّث بأسلوب الواثق، لا، بل بأُسلوبِ مَن اعتَقَد أنَّ مَن أمامَه لا يَفقهون مِن أمْر الحياةِ شيئًا، أو أنهم ينالون مِن عِزَّة النفس والكرامة نصيبًا، وكان وهو يتحدَّث، يحاول أن يجعلَ أسلوبَه رقيقًا وحرجًا في ذات الآن؛ حتى يمنعَ أيَّ اعتراض، ويكبح أيَّ احتجاج، وكأنَّه لم يتوقَّعْ ذلك منذ بدأ عملَه من الجماعات التي سبقتْنا، وهذا ما أكَّدتْه البسماتُ التي انطبعتْ على وجوه مَن سبقونا ووجدْناهم هناك.
لم أسْتطِعْ بَلْعَ الإهانة، ولم أتوقَّع يومًا بأنَّني سأقف مثل هذا الموقف، وأمتنِع عن الجواب، مهما كانتْ رِدَّة الفعل، ومهما كانتِ النتيجة التي ستترتَّب على الردّ، فقلت: نحن لم نوجِّه دَعوةً إليك أو إلى العائلات؛ كي تُؤمِّنوا لنا قهوةً أو ما شابَه ذلك، بل نحن جِئْنا بناءً على دعوةٍ منكم، ومن عاداتنا التي لم تَعْرِفُوها، أو ربَّما عرفتموها ولم تتبيَّنوا محاسِنَ أصولِها، ومنابتَ روائحِها، أنَّنا بُنِينا وجُبِلْنا على الكرَم، وأسمى كرمِنا يتجلَّى بتقديم كلِّ ما نستطيع من أجل ضيفِنا، حتى لو اضطررنا أن نُقدِّم آخِرَ ما بالمنزل؛ لننامَ على مَعِدَة تتلوَّى من الجوع، وإن كنتَ لا تعرف بأنَّ الكرم يتَّصل بالعرَب، فلن آخذَك إلى عربي مسلِم؛ لتعرفَ مقدار ما فينا مِن شهامة، بل سآخذُك إلى عربيٍّ نصراني، هو حاتِم الطائي، الذي اشتهَرَ عندَ العرب قاطبة، فأصْبَح مضربَ المَثَل بما شكَّل من كرَم تحتاج ثقافتك إلى عقودٍ كي تبلغَ أوَّله.
ونحن رغْمَ ما فِينا مِن حاجةٍ بسبب اللُّجوء، نُكرِم الضيف، بأكثرَ ممَّا أكرمتنا بكَنيستك، ولكن المستغرَب والمستهجَن، أن تكونَ في بيتٍ مِن بيوت الله، وتطلب ثمنَ الضِّيافة كي ترغمَنا على الإذعانِ والخَجل والحياء، ولو كنَّا نعرف أنَّنا سنُواجَه بمثل هذا الأمْر المنزوع مِنَ الحياء والكرامة، لبقِينا في غُرَفِنا نحتسي القهوةَ ونأكل ممَّا لدينا، ويَكفينا مِن أمرِنا أنَّنا لم نطالبْ يومًا مَن دعانا إلى هنا اليوم بثمَنِ ما أكرمناه من أسابيعَ وشهور.
نحن لسْنا جوعَى بالمفهوم الذي تُريد أن تزرَعه في روعِنا، ولا نخجل من ردِّ الأمر عليك، وعلى كلِّ مَن حمل فِكرك، واعلم أنَّنا لا نشكرك ولا نشكر أيَّ عائلة من العائلات التي تدَّعي أنها رأفتْ بحالنا، بل نحن نَحْزَنُ ونأسف لِمَا مثلتموه من قِيَم وأخلاق، أقل ما يُمكِنَ أن تُوصَف، أنَّها قِيَم خاوية، وأخلاق لا مكانَ لها بيْن من يملكون القليلَ مِنَ احترام الذات وتقديرها.
قال: ربَّما لم أُحسِنْ صياغةَ الجُمل، فنحن أردْنا فقط أن نوصل تعاطفَنا معكم؛ لأنَّنا نعلم مقدارَ معاناتكم، قد نكون أسأْنا الطريقة، لكنَّها طريقتنا وثقافتنا، فإنِ اختلفتِ الثقافات سيكون هناك سوءُ فَهْم لا محالة.
قلت: لا، ليس الأمْرُ كمَا تَدَّعي، فأنا كنتُ في زيارة عائلات قبلَ القدوم هنا، قدَّموا لنا الطعام والشراب، والمكسرات والبوظة، وأنواعًا كثيرة من الضِّيافة، لكنَّهم لم يطلبوا ثمنَ ذلك، ولو سألناهم يومَها عن ثمن ما أكلنا وشرِبْنا، لكنَّا نَضعُهم في منزلةٍ لا تليق بما قدَّموا، ولاستغرَبوا واستهجنوا، لكنَّك أردتَ فقط أن تَضعَنا في زاوية الإحراجِ والحاجَة، وكأنَّك اعتقدتَ بأنَّ حاجتنا ستدفعُنا إلى ابتلاعِ الإهانة والرُّضوخ لما يجول بنفسِك وذِهنك في هذه اللحْظَة وفي اللحظات القادِمة.
وهذا أمْر بيِّن وواضِح، وإلاَّ، لِمَ كنتَ تحدثتَ عمَّا قدمتَ وعن ثمنِه؟ علمًا بأنَّ ثمنَ ما قدمت لا يُساوي بِعَملية حسابيَّة بسيطة أكثر مِن دولارين أو ثلاثة، ولكنَّك حين أشرتَ بما كان على كلِّ فرْد منَّا أن يدفَع، اقتربت إلى الخمسين دولارًا للفَرْد، فهل هذا أيضًا من ثقافتكم وقيمكم، أم مِن ثقافة اللحظة وخصوصيتها، وما تظنُّ أنَّه سيترتَّب عليها؟
مِن عَادتي النظرَ بعيون مُحدِّثي بقوَّة قد يظنُّها البعضُ تصِل إلى حدِّ الوقاحة؛ لأنَّ العين تتشابك مع معطيات النفْس، فتبدُو العلاماتُ قوية مِن خلال انعكاسِها على الملامِح؛ ولأنَّه يتشابه ببرودته مع برودةِ الإنجليز، ومع برودة وطنِه، كانتِ العلاماتُ النافرة خفيةً لا تكاد تلحظ، لولا المفاجأة التي لم تكُن متوقّعة عندَه؛ لأنَّه كغيرِه من أهل بلاده، لم يعتقدْ أن يكون هناك ردٌّ من “لاجئ” يفوق توقعاتِه، أو حتى يصل إلى توقُّع وجودِ الردِّ أصلاً، وهذا ما أخرَج البريق الذي توقعتُه من عينيه، والاحمرارَ البسيط الذي غطَّى ملامحَه، لكنَّه بخبرة الدَّهاء التي يمتلكها الغربيُّون، استطاع أن يُغطِّي كلَّ هذا ببراعة المداهنة التي طَلَتْ وجهَه، وتعلَّقت بالبسمة الآلية التي يُتقِن أهل الغرب إلْصَاقها وقتَما شاؤوا، وإخفاءَها وقتَما شاؤوا.
الهمْس كان يأتي من كلِّ جانب، مِنَ اللاجئين الذين وجدْناهم قبلَنا بشكلٍ خاص، فهم كانوا أشدَّ حنقًا منه؛ لأنَّهم أرادوا – وببساطة – أن يظهروا ذُلَّهم وهوانهم إلى حدٍّ لم يتوقَّعْه هو أو غيرُه من الموجودين، وللأمانة فقط يجب أن أُشيرَ بأنَّ هؤلاء جميعًا كانوا إيرانيِّي الجنسية، ولم أستهجِنْ هذا التململَ منهم؛ لأنَّ جميع الإيرانيِّين الذين كانوا يقيمون معنا في مخيَّمِ اللجوء قد علَّقوا برِقابهم الصليبَ كإشارة مُرسَلة إلى الإدارة ومَن يهمُّه أن يعرِفَ، إلاَّ فردًا واحدًا، فقد كان يملك شخصيةً ثابتة وقوية، أدَّتْ به للالتِصاق بنا بسببِ البُعد الذي قام بيْنه وبيْن مَن أعلنوا نصرانيتَهم، وحين كنَّا نُناقشهم مبدين تعجُّبَنا واستغرابَنا مما يصنعون بأنفسهم، كانوا يُعلِّلون ذلك بوجودِ فتوى مِن مراجعهم تُبيح إظهارَ غير ما يُبطنون، وكانوا سُعداءَ بما يقحمون أنفسهم به، وأكثر سعادة بفَتْوى المراجِع التي تُبيح لهم الالتجاء إلى التقية.
في هذه الأثناء كان الجميعُ مشغولين بالأكْل والشُّرْب، فقد كانتِ الاستراحةُ قد حانت، لكنَّ أيًّا منهم لم يكن مستعدًّا لما هو قادم، حتى أنا؛ لأنَّني ظننتُ أنَّ الأمر انتهى أمامَ ضغط المواجهة، لكن ما خلف الاستراحة كان أكثرَ إيلامًا وأكثر خبثًا.
بعدَ أن جَلَس الجميع، تقدَّم البرفسور للتحدُّث إلينا، وكنَّا قد تَحلَّقْنا قُربَ بعضنا، الجو المشحون وما زالتْ آثاره باديةً على الوجوه، لكن رغم ذلك، وما مضَى، لم يقنعِ البرفسور بالتوقُّفِ عن شحْن ذاته بقوَّة، كان قد أجَّلَها إلى اللحظاتِ التي نحن فيها الآن.
قال: وهو يبتسم ابتسامةً مبتسَرة، أنتُم تعلمون أنَّ العالَم يَتَّهِمُكم بالإرهاب؛ لأنَّ ما قام به أسامة بن لادن، لا يتوافَق مع الإنسانية والحضارة، وكان وهو يَتحدَّث يُحاول توسيعَ الابتسامة مع صبغها بلونٍ من اللوم والمحاسَبة، وأكْمل: نحن نعرِف أنكم هنا لا تَملِكون أيَّ صلة بما حدَث، لكن الدِّين الإسلامي الذي كَوَّن تلك العقليةَ هو الذي أسْفَر عن وضعِكم كمسلمين في هذه الزاوية الحَرِجة، لكنَّنا واثقون أنَّكم أدركتُم الحقيقة، وبدأتم تبتعدون عن مِثل هذه المؤثِّرات، ونحن نُناضِل من أجْل تحريرِكم من هذا المأزق.
قلت: أي مأزق؟
قال: مأزق الإرهاب.
قلت: ومَن قال: إنَّنا في مأزق؟
قال: العالَم.
قلت: ولكنِّي لم أسمعْ هذه الجملة من العالَم الآن، بل منك، وإذا كنت تعرِف – كما تدَّعي – أنَّنا لسْنَا على صِلة بما حدَث، فلماذا تذكر هذا الأمر أمامَنا؟! ولماذا تُحمِّل دِيننا ما ليس فيه؟!
قال: أسامة بن لادن مُسلِم.
قلت: أوَ يعني هذا بأنَّ الإسلام هو المسؤول عمَّا حصَل؟ إذًا تعالَ معي لنأخذ التاريخ الماضي عِبرةً ودليلاً، هتلر لم يكن مسلمًا، بل كان نصرانيًّا، حتى إنَّه اتَّخذ الصليب المعقوف رايةً لحروبه ومجازره، وقد فعَل بالنصارَى ما لم يفعلْه بشرٌ في التاريخ، ارتكب المجازِر، حرَق وقتَل ونهَب، دمَّر وأوسَع في الدمار، نادَى بتفوُّق العِرق الآري عليكم قبل أن يُنادي بتفوقه على الأمم الأخرى، حتى أصبح مثلاً تعافُه القلوب، وترفضه الأسماع، ونحن وقفْنا في صفِّكم، رغم أنَّه لم يقتل أحدًا منا، ووصفْناه بالنازية المطلَقة، لكنَّنا لم نقل: إنَّ الدِّين النصراني هو المسؤول عن تلك الجرائم، ولم نحاولْ ولو للحظة أن نَدَّعي ذلك، وإذا أردْنا أن نَفتَح التاريخ بعين البصيرة والصِّدْق والحقيقة، فإنَّنا نستطيع استدعاءَ مجموعة من المجرِمين الذين طالتْ جريمتهم ملايين النَّصارَى وغير النصارى، فها هو موسولوليني، ونابليون بونابرت، وها هو كورتيز الذي دمَّر المكسيك باسمِ الآلهة، وها هم الاسبان الذين دَمَّروا حضارة المايا، وها هي فرنسا التي ذبَحتِ الملايين من السُّود، بل ووصلتْ إلى تَصنيفهم بمرتبة الحيوانات أو أعْلَى منها قليلاً، وها هي ألمانيا التي كانتْ تَقْطَع رؤوسَ الأفارقة وتُوزِّعها على النِّساء لسَلْخ الجِلد، وربَّما كان الرأس الذي يقع بين يدي امرأةٍ هو رأس أبيها أو أخيها أو زوجِها، وإنْ رفضتِ السلخ، فإنَّها تُقتل!
وها هي السُّجون والموانئ التي كانتْ تُقلُّ ملايين السُّود مِن إفريقيا إلى أوروبا؛ ليتحوَّلوا إلى عبيدٍ أحطَّ مِن الحيوانات، ولو أردت الاسترسالَ بجمْع التاريخ أمامَك لانقضتْ أيَّام قبل أن أنتهي.
لكنَّنا لم نمارسْ مثل هذه الأمور طوالَ أيَّام حياتنا، لم يكن أبدًا ركيزةً من ركائزِ حضارتنا، حتى يوم كانتِ القُدس بيد الصليبيِّين، واشترَط صفرونيوس على الجيش الإسلامي أن يأتيَ خليفةُ المسلمين لاستلامِ مفاتيح المدينة، قدِم الخليفة عمر بن الخطَّاب – رضي الله عنه وأرضاه – على ناقةٍ؛ مِن أجل حقْن دماء النصارَى قبلَ المسلمين، لم تأخذْه عِزَّة القوة التي كانت بين يديه، بل أخذتْه عِزَّة العدالة وحُرْمة الدم الإنساني علَى السيوف، وحتى قبلَ عودته إلى مقرِّ خِلافته، وطَّد حقوقَ النصارى وأصلها، ورفَض الصلاة في الكنيسة حتى لا يَدَّعي مسلمٌ حقَّه فيها يومًا من الأيَّام.
ونفس المدينة، التي اجتاحتْها جحافلُ الصليبيِّين، وقتلتْ وذبحَتْ، حتى تفاخَر الجنود بأنَّ دمَ المسلمين المراق بلَغ إلى رُكَبهم، وحوَّلوا المسجد الأقْصى لإسطبل خيول، حتى بعدَ كل هذا، ويوم جاء صلاح الدِّين – رضي الله عنه – لم يَقتل نصرانيًّا بعدَ انتهاء المعركة، بل أمَّنهم من كلِّ شر، وترَكهم يخرجون مِن المدينة بما يَملِكون من أموال وثروات، ومنَعَ الجيشَ الإسلامي مِن التعرُّض لمواطِن أو راهِب، حتى إنَّه كلَّف الجيش بالبحث عن طِفل فقدتْه أمٌّ نصرانية، وحين وجدَه أرسل برفقتها إلى الحدود مجموعةً من الجنود؛ كي تؤمِّنَ وصولها إلى بلادِها بكامل السلامة والطمأنينة!
أنا أعرِف بأنَّك تَعرِف ذلك، وعلى يقينٍ بأنَّك تعرِف أكثرَ مِن ذلك، لكنَّك لا تودُّ الاعترافَ بما تعرِف من حقائق، نحن أتْباع عُمر وصلاح، لا نُبيح دمًا وقتلاً، لكنَّنا نُدافِع عن دِيننا وأوطاننا بكلِّ ما نملك، ولا نبْحَث عن رِضاك أو رِضا غيرك، لكنَّنا لا نقترِب من الأبرياء، وليس مِن تعاليم دِيننا الاقترابُ مِن حرْمة الدمِ الإنساني، نحن أيُّها الراهِب أصحاب رِسالة، ولسْنا دُعاةَ حرْب أو دَم، نحن نتَّبع العَدالة أينما سارَتْ، ونُجانِب الظلم والتكبُّر أينما كان، هذا نحن، ولسْنا نخجَلُ من دِيننا، ولا نَحْني رأسَنا بسبب فعْل من فئة من المسلمين تتحمَّل هي مسؤوليتَه أمام الله قبلَ أن تتحمَّل مسؤوليتَه أمامَ التاريخ والحضارة.
نحن أتْباع محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي كانتْ وصاياه للجنود تطول الشَّجرَ والحجَرَ قبل أن تطول الحيوانَ والإنسان، وهو الذي كان يمنَع السيوف من المبادَرة إلى حرْب أو وقعة، بل هو مَن منَح اليهود والنصارى حقَّ الحماية والعِبادة، دون أيِّ تدخُّلٍ مِن المسلمين، وهو الذي أمَّن كنائِسَهم وصوامِعَهم، حتى أصبحتْ عدالته مثلاً لا يُنكِرها إلاَّ حاقِد أو مريض أو متجَنٍّ على الحقِّ والحقيقة، والمنطق والعلم، والنقل التاريخي الذي يَنحاز إلى مِعيارِ ما حصَل على الأرْض، وليس ما تدَّعي الأفكارُ والهواجِس والهلوسات.
هذا نحن، وهذا تاريخُنا، فإنْ كنت تودُّ الحديثَ معنا إنسانًا لإنسان، فإنَّنا لا نَملِك ألاَّ نُحادِثَك، وأما إن كنتَ تودُّ اختطافَ عِزَّتنا بمكرِك ودهائِك حتى تضعَنا موضعَ الضعفاء الذين لا يملكون إلا التسليمَ والانحناء، فإنَّنا نرفُض أن نَكونَ على غير هَديِ نبينا محمَّد – عليه أفضَل الصلاة وأجَلُّ التبريك – ونرفُض أن نكونَ غير مسلِمين يَسيرون للناسِ بالعدالة والرِّسالة.
نعمْ بالرِّسالة، نحن أصْحاب رِسالة منذُ نبيِّنا محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وحتَّى اليوم الحاضِر، رسالة العَدْل والسِّلْم والحضارة والإنسانية، البريئة مِن سفْك الدِّماء، وقطْع الرؤوس، واستعِباد الناس، ولا نُخالِفُ باتِّباع هذه الرسالة المسيحَ – عليه السلام – ولا موسى – عليه السلام – ولا أيَّ نبي مِن أنبياء الله – عليهم جميعًا أفضلُ الصَّلاة، وأتم السَّلام.
هذا نحن عن ثِقة ويَقين، ولو علمتُ أنَّنا قادمون ليُنالَ مِن رسالتنا ودِيننا لقَدِمْنا أيضًا، ليس حبًّا في مقابلتك، بل اندفاعًا لجلاءِ الحقيقة التي أنا على يقينٍ أنَّك تعرِفها وتُجانبها، فاحملْ هِمَّتك نحوَ الحق والحقيقة، حتى تشعرَ وأنت تنظر في المرآة أنَّك قمتَ بما يقوم به الإنسان، وإنْ خاب ظنِّي وكنت مؤمنًا بما قلت، فإنَّني آسَف عليك وعلى مَن مثلك، بل وأرْثِي لك ولمَن مثلك.
هنا، كنتُ قد أدركتُ مِنَ الانطباعات التي لوَّنت وجهه، كمَّ الغضب والحنق الذي تَكدَّس في داخلِه، كان على وشكِ الانفجار والتناثُر، لم تُسعفْه قدرتُه على تعليقِ ابتسامه، ولم يُسعِفْه بُرودُه بالتماسُّك والتلوُّن، فاندفع غضبُه مرةً واحدة.
قال: أرجوك ألاَّ تُقابِل دِيني بدِينك، واحذرْ وأنت تتحدَّث عنِ الأمثلة مِن ضرورة المقابَلة.
قلت: هوِّنْ على نفسك، فأنا لم أقابل دِينًا بدِين، ولن أقابل؛ لأنَّني صاحِبُ رسالة، ولكنِّي قابلتُ رؤيةً أنتَ مَن وضعها برؤية موجودة بيْن ثنايا التاريخ، لا تستطيع أنتَ وكلُّ أهلك دَحرَها إلاَّ بقوَّة السطوة والظُّلم، أمَّا قوَّة الحُجَّة والبُرهان، فأنتَ أعجَزُ كثيرًا من دحضِها، وما غضبُك المستِعر والمؤجَّج إلاَّ دليل على ذلك؛ لهذا، فأنا يُمكنني التعامُل مع من يودُّ الحُجَّة ودليل البرهان، ولا يُمكنني التعامُل مع نوايا مبيَّتة، وأهداف مغلَّفة؛ لذا فالأفضل لي ولك، أن نتوقَّف عندَ هذه النقطة؛ حتى لا يكون هناك حاجةٌ إلى غَضَبٍ أو حنق غير مبرَّرَيْن.
وخرجتُ منَ الكنيسة، وقفتُ في ساحتها، ونفْسي تُحاسبني وتلومني، فما وجدتُ لِساني إلاَّ ويَلْهَج، “يأبَى الله ذلك والرسول، يأبى الله ذلك والرسول، يأبى الله ذلك والرسول”.
بعدَ دقائقَ مِن خروجي انفضَّتِ الجلسة، وخرَج الجميعُ للعودة، وكان هو معهم، كان قدِ استعاد رَباطةَ جأشِه وتوازنَه، فجاءني مصافحًا وقال: هل يُمكنني الحصولُ على رقْمك للتواصل معك؟
قلت: لا.
قال: هل مِنَ الممكن أن نلتقي للتحاور؟
قلت: لا.
قال: أنا أودُّ حقًّا التعرُّفَ عليك.
قلت: وأنا لا أودُّ التعرُّفَ عليك، هنا التقَيْنا، وهنا نفترق.
ملاحظة: أنا لا أدَّعي أنَّ هذا سلوكٌ مِن دولة النرويج وحكومتها؛ لأنَّني رغمَ مواقِفي العديدة التي لا تُرضِي الكثير من النرويجيِّين، حصلتُ على الإقامة ومِن ثَمَّ الجنسية دون قيْد أو شرط، ولم يحصلْ عليها مَن علَّقَ الصليب برَقبته؛ بحثًا عن إقامة أو جِنسية.
مأمون أحمد مصطفى