صدر حديثًا كتاب جديد للكاتب والناقد المغربي عزيز العرباوي عام 2024 تحت عنوان “الترجمة والآخر” عن مركز الدراسات والنشر بدائرة الثقافة بالشارقة بالإمارات العربية المتحدة، بعد أن راكم العديد من المؤلفات النقدية والفكرية والإبداعية، تعدت العشرة الكتب في الأدب والفكر والتراث العربي. الكتاب الجديد يهتم بموضوع الترجمة بشكل مختلف وأهميتها في الانفتاح على الآخر وخلق نوع من التفاعل الثقافي بين الشعوب المختلفة؛ فاختيار موضوع الترجمة لم يكن اختيارًا عاديًا، بل جاء نتيجة كونها قضية أساسية في معالجة الصراعات أو على الأقل محاولة فهم مختلف أوجه الصراع السياسي والثقافي والديني بين الشعوب والمجتمعات.
ويعد ارتباط الترجمة بالمثاقفة بين الشعوب وبين مجتمعات أخرى محددة سلفًا في إطار من الحوار والتواصل الثقافي والسياسي، حيث تعكس مدى أهميتها كأداة لتكريس الحوار مع الآخر وخلق فعالية ودينامية ثقافية تغطي على منابع الصراعات المستمرة والمشاكل التي يمكنها أن تحصل، والتي يمكنها أن تبرز في العلن في لحظة قصيرة كلما كان هناك مجال للخلاف الجذري حول قضية معينة. إن الربط بين الترجمة والسلم العالمي ينطلق مباشرة من مسألة فهم كل طرف للآخر، ومحاولة إدراك مواقفه ومقصديته من كل ما يبدعه ويقوله سواء اتفق مع مواقف الآخر وإدراكه للأشياء والعالم أم لم يتفقْ. وبالعودة إلى المفاهيم التي تحقق السلم العالمي نجد أن الحرية واحترام الآخر في اختلافه وتقدير الآخر قبل تقدير الذات، تنتج واقعًا جديدًا يعمه الأمن والتعاون والاختلاف الذي لا يفسد للود قضية.
ويحصل عن الثقافة السائدة داخل مجتمعاتنا العربية اليوم تفكير مختلف في التعامل مع المواقف والأفكار والمعارف المستوردة بشكل من الأشكال من ثقافات وشعوب أخرى في العالم، حيث تصبح لديها القدرة على تطويع هاته المواقف والأفكار حسب أهميتها بالنسبة إلى ثقافتنا وقيمنا وممارساتنا الثقافية والاجتماعية داخل المجتمع وصبغها بطابعها الثقافي العربي، من خلال الوقوف على تكريس نوع من الثقافة الحصينة والمحصنة، ما أمكنها ذلك، ضد أي نوع من الاختراق أو الاستلاب الثقافي والقيمي للآخر المختلف عنا؛ ورغم أن هناك استيعاب واضح للعديد من الأفكار والثقافات القادمة من الغرب والشرق معًا في مجتمعاتنا العربية، لكن الأمر لا يسلم من الحفاظ على قيمنا وتقاليدنا وأفكارنا المستمدة من التاريخ والتراث العربي والإسلامي الغني برافد الثقافة العالِمة. كل هذا يعطي للنخب العربية المثقفة القدرة على الإبداع والتجديد فيه، والمساهمة في بناء المجتمع وتطويره وعدم اللجوء إلى أفكار ثابتة وجامدة لا تقبل التجديد والتغيير وكأنها نصوص مقدسة يحرم نقدها أو التجديد فيها.
توفر الترجمة في تفاعلها وتطورها نحو المتميز من الإبداع الترجمي، الأرضيةَ الصلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري، من خلال تأسيس الأرضية المعرفية وتحديد المتاح من المعارف الثقافية والعلمية، التي لا يمكن الوصول من خلالها إلى مستويات الجهل والاستهتار المعرفي. إن الأمم لا تبدأ من فراغ، بل تنطلق في بناء حضارتها وقيمها الثقافية وأشكال تعبيراتها بدءًا من الاستفادة من المترجمات التي ليست شيئًا آخر غير تجارب السابقين ومعارفهم وخبراتهم المحفوظة في المؤلفات المختلفة والترجمات المتعاقبة في الزمن والتي حافظت عليها الإنسانية بواسطة الترجمة وإعادة القراءة والتحليل. فقد ترجم اليونانيون كنوز العلم والفلك والفن والرياضيات والأدب عن حضارات قديمة جاورتهم كالحضارة الفارسية والمصرية القديمة، كما انتعشت الثقافة العربية الإسلامية بفضل الدماء الجديدة التي سُكبت في شرايينها من خلال ترجمة التراث الهندي والفارسي واليوناني القديم، كما انتفضت أوروبا في القرن الخامس عشر مباشرة بعد ترجمة التراث الأندلسي الوافد من الغرب الإسلامي وكنوز المعرفة الوافدة من بيزنطة الآفلة، والترجمة هي الطريق نفسها التي مرّت منها اليابان، والتي بعثت أواخر القرن التاسع عشر ببعثات طلابية إلى أوروبا واكبتها حركة ترجمة لنفائس الإنتاجات الفكرية والعلمية الأوروبية التي مازلنا نستفيد منها في أبحاثنا وكتاباتنا المتعددة.
وترتبط العلاقة مع الآخر بالضرورة بمدى احترام الخصوصيات والهوية الجماعية لكل طرف على حدة؛ هذه الهوية المرتبطة أساسًا باللغة والتاريخ والمصير الواحد والمصالح الوطنية والثقافية والدينية التي تميزه، تستدعي من الآخر تقديرها وعدم التطاول عليها مهما كان الاختلاف بينها وبين هويته. فعلاقة الذات أو الأنا بالآخر ليست علاقة انشطارية منعزلة في الزمان والمكان، بل تحكمها علاقة جدلية متحركة تحتكم إلى الاحترام المتبادل والتقدير الخاص دون توتر أو ممانعة أو رفض أو حتى انكفاء على الذات، وإلا خلقت نوعًا من التوتر والصراع المرتبط أساسًا بقناعة طرف بدونية الطرف الآخر وعدم قابليته لمشاركته الثقافة والقيم الإنسانية والمعرفة ومصادرها المتعددة من أجل بناء عالم يسوده السلم والأمان والمحبة والتفاعل الإيجابي بين الشعوب.
ومن هنا، فإننا سندرس في هذا الكتاب العديد من القضايا المتعلقة بالترجمة وإسهاماتها المتنوعة في تكريس الحوار مع الآخر في كونه شريكًا لنا في العالم ومنافسًا حقيقيًّا لنا في بناء عالم مسالم وقيم إنسانية تساهم في تكريس السلم الإنساني وتطوير القيم من أجل الحفاظ على الأمن العالمي، حيث نتطرق في الفصل الأول إلى موضوع الترجمة وتطور اللغة العربية من خلال الحديث عن مساهمة الغرب في ترجمة القرآن الكريم، والترجمة وتطور العربية، والترجمة وتعلم اللغات الأخرى، والحضارة العربية الإسلامية وتأثيرها في الثقافة العربية، ونختم الفصل الأول بموضوع الترجمة في عصر النهضة الذي عرف تطورًا ملحوظًا ساهم في تقريب الفكر الغربي وعلوم الغرب إلى القارئ العربي الذي كان تواقًا إلى كل جديد في الضفة الأخرى المتقدمة. بينما نعالج في الفصل الثاني موضوعًا مهمًّا يتعلق بعلاقة الترجمة بالتعريب، فنتناول المواضيع التالية: عن التعريب والترجمة، التعريب العلمي، التعريب والتغريب، الترجمة والفلسفة، وترجمة النصوص الأدبية. وفي النهاية نعالج في الفصل الثالث موضوع الترجمة والحوار مع الآخر من خلال المواضيع التالية: الاختلاف الثقافي والحضاري، المستوى الحضاري للترجمة، الترجمة والانفتاح على الآخر، الترجمة في ظل علاقة الذات بالآخر، الذات في مرآة الآخر، والترجمة والمثاقفة. لنختم كتابنا هذا بخلاصات متعددة تأتي كأفكار عامة من داخل البحث نفسه.