في ذكرى وفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، تتجدد الذكريات حول علاقته المميزة بالقائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهي علاقة جمعت بين الشعر والنضال، بين الكلمة والبندقية، وكانت تعكس تعقيدات السياسة والثقافة في النضال الفلسطيني.
علاقة درويش بعرفات:
كانت علاقة محمود درويش بياسر عرفات علاقة متينة ومعقدة في آن واحد. عرفات، كزعيم لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، كان ينظر إلى درويش كصوت قوي ومؤثر في النضال الفلسطيني من خلال كلماته وشعره. في المقابل، درويش رأى في عرفات رمزًا للثورة الفلسطينية وشخصية وطنية تحمل على عاتقها قضية شعب بأكمله.
في عام 1974، أتاحت الأمم المتحدة فرصة ذهبية لمنظمة التحرير، لتمثيل فلسطين داخل أروقتها، ليستعين ياسر عرفات بمحمود درويش، في كتابة خطابه الذي سيُلقيه في المؤتمر، وقد اهتمَّ عرفات بهذا الخطاب كثيرًا، حتى أنه تدرب عليه مع محمود درويش عدة مرات، قبل المؤتمر، وقد حرِص درويش في هذا الخطاب على وضع بعض الأمثلة التي يفتخر بها الغرب، كمحاربة أوروبا للنازية وثورة أمريكا على الاحتلال البريطاني، ليؤكد لهم أن نضال الفلسطينيين ليس إرهابًا، كما أنَّ حروبكم ونضالاتكم ليست إرهابًا.. لقد أثار هذا الخطاب ضجة في العالم، وأصبح البعض يقتبس منه بعض العبارات ويُرَدِّدها، كجملة:
“لقد جئتكم بغصن زيتون وبندقية ثائر.. فلا تُسقِطوا الغصن الأخضر من يدي”
كما كان لدرويش الفضل، في اتصال عرفات باليسار الإسرائيلي، من خلال تعريفه بالصحفي اليساري أوري أفينيري، أحد المدافعين عن وجهة النظر الفلسطينية، داخل الإعلام الإسرائيلي، وقد اعتبر الفلسطينيون تلك الخطوة اختراقًا للكيان الإسرائيلي.
ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، انبرى درويش يُدافع عن المنظمة وحقها في الوجود، رغم اعتراضه على بعض ممارسات المنظمة وسياساتها في بعض الأحيان، ومع استمرار الموساد في اغتيال شخصيات سياسية وأدبية فلسطينية، وُضِعَ ياسر عرفات ومحمود درويش ضمن قائمة الاغتيال التي يقوم بها الموساد، ورغم إصرار عرفات على تدَرُّب درويش على السلاح وحمله، رفض درويش الأمر بشكل قطعي ورغم الصداقة الكبيرة التي جمعت بين درويش وعرفات، لكن الأمر لم يخلو من بعض الخلافات، ففي عام 1977، نشر مركز الأبحاث الفلسطينية -والذي يرأسه محمود درويش- مقالاً كتبه إلياس خوري؛ اعتراضًا على بعض سياسات منظمة التحرير، الشيء الذي أغضب ياسر عرفات ومعاونيه، ودفعه لإرسال قوة أمنية، اقتحمت المركز واعتقلت إلياس، مِمّا تسبَّب في استقالة محمود درويش من المركز، وقطع الصِلة بينه وبين ياسر عرفات ل3 سنوات،وخلال فترة الخلاف، أصدر درويش مجلة الكرمل، التي أصبحت من أهم أصوات فلسطين المؤثرة.
بعد عودة العلاقة بين عرفات ودرويش، اشتد الحصار على عرفات، خاصة مع محاربته للمنشقين عن المنظمة، الشيء الذي دفع درويش إلى زيارته خلال تلك الفترة، ومؤازرته قدر استطاعته.
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، لم يحتملْ درويش البقاء في بيروت، فسافر ليلتحق برفاقه في تونس، وهناك طلب منه عرفات أن يستمِرَّ في إصدار مجلة الكرمل مهما حدث، وقد تطورت علاقة الشاعر بالثائر، الشيء الذي جعل عرفات يستثني درويش من بعض القوانين داخل المنظمة، واختاره ليكون مستشارًا له، كما طلب منه كتابة خطابه الذي أعلن فيه الاستقلال أمام البرلمان الجزائري، واصطحبه في لقائه بوفد من اليهود الأمريكيين، وكتب له خطابه الثاني في مؤتمر الأمم المتحدة، الذي أُقيم في جنيف لكن درويش قرر الابتعاد عن المنظمة رويدًا رويدًا، بعد أن أدرك مَيْل صديقه للسلام مع إسرائيل، الشيء الذي دفعه إلى الاستقالة من المنظمة عام 1993، ورفض منصب وزير الثقافة الذي عُرِض عليه، ومع ذلك لم تنقطع علاقتهما، حيث استمرت لقاءات الثائر بالشاعر، كلما سافر الأخير إلى رام الله، رغم نظراته الصامتة المعاتبة دائمًا.
الاختلافات والخلافات:
على الرغم من التعاون الوثيق بينهما، لم تكن العلاقة بين درويش وعرفات خالية من الخلافات. درويش كان يعبر أحيانًا عن استياءه من بعض السياسات التي اتبعتها القيادة الفلسطينية، وخاصة فيما يتعلق بمفاوضات السلام مع إسرائيل. كان يعتبر أن بعض التنازلات قد تكون مكلفة على حساب حقوق الفلسطينيين التاريخية، ورغم ذلك، لم يخرج هذا الخلاف عن إطار الاحترام المتبادل.
الشعر والسياسة:
أثر درويش على ياسر عرفات بشكل كبير، وكان عرفات يستشهد أحيانًا بأشعار درويش في خطاباته السياسية. كانت قصائد درويش تعكس الأمل والألم الفلسطينيين، وتتماشى مع رؤية عرفات لنضال شعبه. من جهة أخرى، كان درويش يرفض أن يكون شعره مجرد أداة في خدمة السياسة، ورغم تأييده للقضية الفلسطينية، كان يعتبر أن للشاعر دوراً يتجاوز السياسة إلى الأبعاد الإنسانية الأوسع.
في النهاية، تبقى علاقة محمود درويش بياسر عرفات مثالاً على التداخل بين الشعر والنضال، بين الفكر والسياسة، في مسيرة الشعب الفلسطيني. لقد جمعهما حب الوطن والسعي لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، وإن اختلفت رؤاهم أحياناً حول كيفية الوصول إلى هذا الهدف.