صمتٌ عجيب يزحف في شرايين القنيطرة، ذلك الصباح. هدوءٌ حاد. كأنها مدينة أشباح. لا وحشٌ يسير ولا طير يطير. مَسحةٌ كئيبةٌ تطبع الأجواء، بالشوارع الفسيحة والدروب الضيّقة.
– ليست هذه القنيطرة التي أعرف، أو بتعبير أدق، التي كنتُ أعرف
كان عليه أن يُقنع ليلي، زوجته الأمريكية، التي تزور القنيطرة لأول مرَّة، بأنها ليست القنيطرة التي ظل، طوال عشر سنوات من زواجهما، يحدّثها عن مرور الأمريكيين بها، وعن قبر الجندي المجهول بمدخل قصبة المهدية، وتمثال السمكة بالمرسى البحري، بالشاطئ. حدثها عن مواجهات القصبة الضارية بين الأميركيين والفرنسيين. حدثها عن نهر سبو وسيدي العربي بوجمعة، وطائر اللقلاق. وأسهب في الحديث عن الخبّازات، زعم ارتباط اسمها ببائعات الخبز اللواتي تُوجز حكاياتهن مأساة الأرملة جان فورتيه في “بائعة الخبز” لكزافييه دومونتبان. بائعات أرامل قدمن من الريف. نذرن حياتهن لأطفالهن بعد فقد الأزواج، غرقاً في البحر أو النهر، أو طحناً بين فكّي الطواحين الهائلة بمصنع تصبير السمك بالمهدية، أو رمياً بالرصاص في أعقاب محاولة انقلاب طائرة البوينغ الفاشلة.
بينما كانت ليلي تحدثه عن ذكريات والدها، الضابط الأمريكي، بالقاعدة الجوية المطلة على سبو. تحدثه باعتزاز وفخر، عن دوره في تطوير سلاح الجو المغربي وتدريب طلائع الطيارين المغاربة الشباب.
لم تكن ترغب في مرافقته، لكنه نجح في أن يحرك بداخلها زخماً من نوستالجيا عظيمة وعنيفة. جعلها تستعجله في حجز تذاكر السفر بعد أن غزاها الشوق إلى مشاهدة بيت والدها بالقاعدة، حيث كان يُدوَّن رسائل الحب والاشتياق لوالدتها سارة. هبّت بقلبها عاصفةٌ من حنين أسطوري، فسقطت صريعة فوضى ذكرياتٍ امتزج فيها الحب بالحرب، واختلطت الموت بالحياة، وانصهرت الخيانة في الوفاء.
حاول حسين أن يفك شفرة السكون الذي ألبس القنيطرة عباءة الكآبة ذلك الصباح، فلم يفلح. ظلت ليلي واجمةً تنتظر منه تفسيراً مقنعاً. لم يقنعها زعمه بوقوع حدث جلل ما، حوَّل حلاّلة إلى أرض خلاء:
– ربما أصابها الطاعون.
فتحت ليلي باب السيارة، ترجّلت وهي تضحك من كلامه. أسندت ظهرها إلى عمود لوحة إشهارية. أشعلت سيجارة وأخذت تنفث الدخان في الهواء في شكل دوائر صغيرة تتصاعد بطيئة وهي تدور حول نفسها كدراويش طريقة صوفية، يرقصون في اتساق باهر مع حركة الكون. تتباعد دوائر الدخان وتبتعد، تتفكك، تتحوّل إلى خيوطٍ رفيعةٍ تبددها ضربات أجنحة اللقالق وهي تعبر شارع محمد الخامس باتجاه بورت ليوتي.
فجأة، بدّد السكون منبّه سيّارةٍ توقفت بجوار ليلي. لاح من نافذة السيارة رأس رجل كثُّ اللحية مقصوص الشارب، ترصّعُ جبهته زبيبةُ السجود. حملق إلى ليلي، ثم انفجر فجأة حتى فرفرت اللقالق في أعشاشها المنصوبة على يوافيخ أعمدة النور:
– لَعْنِي الشِّيطَانْ، كَتْكْمِي فرَمْضَان! ما تحَشْمِيشْ؟ الله يمَسْخَكْ يا الْمَمْسُوخَة.
ثم انطلقت السيارة باندفاع شديد، تاركة ليلي تخبط بيديها حول وجهها الأشقر المنمّش، محاولةً صدَّ سحابة الغبار التي خلفها عنف دوران العجلتين الخلفيتين.
لم تفهم ليلي كلام الملتحي، اندفع حسين نحوها بقوّة. أمسك بذراعيها النحيفتينـ أخذ يرجرجها ويصيح:
– إنه أول رمضان ليلي، الناس صيّام، الناس نيّام، لذلك، تبدو القنيطرة مهجورة هذا الصباح. سوف تكتشفين شوارع المدينة وحواريها على حقيقتها، في المساء. سترين قنيطرة أخرى مغايرة. سنزور الخبازات. سوف تتفرجين وتتسلّين بحيوية أولاد حلاّلة وحركتهم الدَّؤُوبة، وهم يصارعون الوقت، يقاتلون من أجل البقاء. إنهم يرفضون أن يموتوا جوعاً على أرضٍ تأكل خبزها مدن أخرى، تمتصّ دمها كالعلق وتشرب عرقها كخيول حرب ظمأى.
في المساء وقبل صلاة العشاء، انطلقا نحو الخبّازات. كانا يسيران بمشقّة في شارع الخبّازات الرئيسي، الغاص بالسلع والبضائع، الآهل بالباعة والمرتادين، المفعم بالحيوية. نقطة التقاء الأكتاف بالأكتاف، وخط تماسّ الخواصر بالخواصر، وحلبة ارتطام المقدمات بالمؤخرات.
– خمسين، خميسن، خمسين. تْعَالُو خمسين درهم. بْيَاسَه نَاضْيَه بخمسين درهم. لَبْسِي وتْفَكْرِيني يَا مَدَامْ. اشْري وتْفَكَرْني يَا مَسْيُو. صَامْدِي سْوَارْ بَاطَلْ. صَامْدِي سْوَارْ فَابُورْ. لَبْسِي وتْبَرْعِي يَا مَادْمُوزِيلْ. لَبْسِي وبَرْعِي يَا مَدَامْ.
كان صياح البائع الواقف فوق أكمة هائلة من الكولونات، وسط الطريق مثيرا لدهشة ليلي. وكان حسين يترجم لها كلامه كلمةً، كلمة. بإنجليزية متكسّرة ركيكة. فتضحك تارةً، وتذهل تارة أخرى، تضع كف يسراها على فمها المشدوه وتضرب بيمناها على ظهره ضرباً خفيفاً.
نظر حسين إلى ساعته، أمسك ليلي من ذراعها، جذبها ودخل بها في درب ضيّق معتّم. قال لها حين بدت خائفةً مستغربةً:
– سآخذك إلى كشك نحّات يخلق أعماله من الجص. أسماك ولقالق وأشياء أخرى، سنشتري منه منحوتات، تقدمينها هدايا تذكارية إلى والدتك سارة وأختك هيلاري وصديقتك كلارا.
غاصا في الدرب الضيق المعتّم الطّويل المُقفِر. غرقا في الظلام.
فجأةً سُمع دويّ رصاصةٍ. فُتحت نوافذ البيوت المتراصّة على جنبات الدرب. هبّ الناس من كل باب. انفجر المكان صياحاً وضجيجاً ونواحاً وولولوةً.
– اطلبوا سيارة إسعاف! بسرعة رجاءً! نزيف الدم لا يتوقف. اتصلوا بالوقاية المدنية!
بعد نحو ربع ساعة، وصل رجال الشرطة ثم الوقاية المدنية. تدافع الناس نحوهم وتحلّقوا، ولم ينفضّوا إلا حين شاهدوا النقّالتين تتحرّكان، يجرُّهما رجال الوقاية مسرعين باتجاه سيارة الإسعاف.
تحركت الإسعاف نحو المشفى، فتحركت علامات الاستفهام، واشتعلت في رؤوس الناس الأسئلة، وتناسلت كألسنة اللهب. كانت جميعها تصبُّ في محيط سؤال واحد. من أطلق الرصاصة؟
– عليكم بعبد الواحد النحّات. قد أُطلقت الرصاصة أمام باب ورشته مباشرة. فلنذهب إليه ونسأله. قد يكون لديه الجواب.
استبدَّت بوردة، الكاتبة الفرنسية من أصل مغربي، أفكار رواية “أمنيتي أن أقتل رجلاً”، خطّة لقتل رجل دون دليل. فكتبت روايتها “كيف تقتل زوجتك؟”.
كانت قد انتهت منها حين تعرّفت إلى حسين عبر فيسبوك. جاءت مسودة الرواية مشبَعةً بهواجس سعاد سلطان الشامسي وأفكار الأمريكية نانسي كرامبتون بروفي، التي طالعت لها وردة مقالاً بصيحفة ذائعة الصيت، عنوانه: «كيف تقتلين زوجك؟».
لم تنتبه وردة وبقية القرّاءُ لجنون نانسي، إلا بعدما علموا عبر وسائل الإعلام أنها استأجرت قاتلا محترفاً، أوكلت إليه مهمّة قتل زوجها الطاهى الشهير دانيال بروفي.
بعد تعرّفها عليه، عرضت عليه أن يُشاركها كتابة روايتها المتخيّلة في الواقع. ولمّا لم يفهم مقصدها، أوضحت له أنَّ مخطوطة الرواية جاهزة لتنزيلها على الأرض، وتريده أن يكون بطلها، على أن تشاركه زوجته ليلي البطولة.
– سأبعث لك بالرواية لتقرأها، ثم نتفق فيما بعد. للإشارة فقط، لقد جعلت عنوانها “جريمة في الخبّازات” حتى يناسبك ويتناسب ومسرح الجريمة.
اتصل بها بعد الانتهاء من قراءتها، وقد راقته فكرتها.
– أنا جاهز، وأثير انتباهك أن ثمة ورقة مفقودة بالمخطوطة.
ردّت عليه وردة بثقة:
– لا تهتم. تلك الورقة المفقودة مجرد جزء يسير سقط من ذاكرتي. أريد منك جريمة كاملة يا حسين.
طمأنها، مؤكّداً أنه سينفذ الدور وفق ما هو محدد له بمخطوطة الرواية، ولن يترك شيئاً للصدفة.
كان على حسين أن يقنع زوجته ليلي بالسفر إلى المغرب، ويتخلّص منها هناك عن طريق قاتل ميّت القلب.
أرسلت إليه وردة رابط حساب صفحة تعود لمغربي يستقر بالقنيطرة. شارك في الحرب في أفغانستان ثم العراق.
كان عبد الله الملقّب بأبي أسامة المغربي، قد عاد لتوه من سوريا، حيث قاتل في صفوف داعش سنتين ونجح في الهرب بعد أن ضبطوه فوق إحدى السبايا الإيزيديات المحتجزات بالغوطة الشرقية، في ريف دمشق.
أخبره حسين أن زوجته ليلي تنتمي للحزب الجمهوري، تنحدر من أصول يهودية، تعتنق الصهيونية، وتناصر إسرائيل في حروبها على الفلسطينيين.
في نهاية المحادثة أطلعه على موعد قدومه إلى القنيطرة رفقة ليلي. واتفقا على بقية التفاصيل.
كان أبو أسامة المغربي متحمّساً، وهو يعد وردة بقدرته على تقمّص دور القاتل، واستعداده لإطلاق الرصاص على ليلي، ابتغاء مَرْضَاتِ الله وطمعاً في الفردوس.
– سأكون بانتظاركما، في تمام الساعة العاشرة ليلاً، أمام ورشة عبد الواحد النحّات، بالدرب المتفرّع عن شارع الخبّازات الرئيسي. إنه الدرب الوحيد المعتّم، الخالي من المارَّة.
كان هذا آخر اتصال جرى بين عبد الله وحسين، إلى أن التقيا قبالة ورشة عبد الواحد النحّات.
ارتعدت فرائص ليلي وهي تشاهد المسدس مُصوّباً نحوها بإحكام. ارتمت في حضن زوجها. دفعها عنه عنوةً، حتى يعطي لعبد الله إمكانية التصويب بشكل مٌريح وجيد، وحتى لا تخطئها الرصاصة وتصيبه هو بدلاً منها.
ابتعد عنها حسين. تركها وحيدةً تستجير بحائط بيت متآكل البلاط. التصقت به وظهرها إلى عبد الله. ظلت تعدُّ نبضات قلبها المتسارعة، في انتظار الرصاصة.
سُمع دويُّ الرصاصة وجلجل في المكان. تناثرت ليلي على الأرض مثلما تتساقط أوراق دالية في الخريف.
كانت مخطوطة الرواية تفتي بالتخلّص من حسين عند تنفيذ الجريمة. لأن بقاءه على قيد الحياة ربما يُفقد الجريمة عنصر الاكتمال ويفسد كمالها. توقّعت المخطوطة أن يصحو ضميره في لحظة ما، ويعترف للشرطة بكل شيء، فيُقبض على وردة في باريس، ويُعتقل عبد الله في القنيطرة، ويُسلّمان إلى واشنطن لمحاكمتهما هناك.
لذلك تعمّدت أن لا تبعث لعبد الله بالورقة المفقودة إلا قبل موعد تنفيذ الجريمة بنصف ساعة، حتى تمنحه صكَّ قرار تصفية حسين، ولا تعطيه فرصةً للتراجع.
– حين ستنتهي من قراءة الورقة المفقودة ستكتشف أن حسين يريد التخلص من ليلي بهدف الاستيلاء على بوليصة التأمين المقدّرة بمليون دولار.
بالورقة المفقودة، اكتشف عبد الله أن ليلي لا تنحدر من أصول يهودية، ولا تعتنق الصهيونية، ولا تناصر إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، وأن والدها الجنرال قُتل برصاص ضابط مارينز، لأنه عارض قرار الحرب على العراق، واكتشف أن زوجها حسين كذب عليه. وأنه يخطط لاستعماله أداة للتخلص منها.
في مركز بومبيدو الثقافي، الواقع في قلب باريس، تسلطنت وردة، وهي تُحوّل شُخوص روايتها من ورق إلى أسماء من لحم ودم، قدَّمتهم تباعاً أثناء حفل توقيع “جريمة في الخبّازات”. ليلي بوجهها الأشقر المنمّش، والدتها سارة، شقيقتها هيلاري، صديقتها كلارا، زوجها حسين، أبو أسامة المغربي، عبد الواحد النحّات، وبائع الكولونات في الخبّازات، الذي جعل الجمهور الباريسي ينفجر ضحكا حين أعاد تمثيل دوره القصير الخاطف في الرواية، بفرنسية متكسّرة ركيكة:
– خمسين، خميسن، خمسين. تْعَالُو خمسين درهم. بْيَاسَه نَاضْيَه بخمسين درهم. لَبْسِي وتْفَكْرِيني يَا مَدَامْ. اشْري وتْفَكَرْني يَا مَسْيُو. صَامْدِي سْوَارْ بَاطَلْ. صَامْدِي سْوَارْ فَابُورْ. لَبْسِي وتْبَرْعِي يَا مَادْمُوزِيلْ. لَبْسِي وبَرْعِي يَا مَدَامْ.
غاب والد ليلي والضابط الأمريكي، مُطلق النار عليه، وناب عن بائعات الخبز، اللواتي قضين نحبهن في الخبازات، حفيد إحداهن. لم يكن الحفيد غير الرجل الملتحي الذي أخرج رأسه من السيارة ولعن ليلي حين رمقها تدخّن صباح أول يوم في رمضان، وهي تسند ظهرها إلى عمود لوحة إشهار، قبالة النافورة.
وبينما الجميع يتأهب للنزول من المسرح، خرج الملتحي، حفيد بائعة الخبز، من بين شخوص الرواية. وقف خلف الميكروفون وخطب:
– السيدة ليلي، اللعبة لم تنته بعد. لقد قُتل زوجك حسين فعلاً. أما الذي يقف جانبك الآن، فشقيقه التوأم حسن. لقد أخفى عنك حسين طوال زواجكما حقيقة توأمه. لم يكن يريد أن تعلمي أن شقيقه مختلٌّ عقلياً. حتى الكاتبة وردة تعمّدت إخفاء هذه الحقيقة عنكِ، لأنها تُحضّر لإصدار الجزء الثاني من “جريمة في الخبّازات”. سيقتلك حسن في نهاية الجزء القادم، سيستولي على بوليصة التأمين خاصّتكِ، وعلى الذهب والأشياء الثمينة التي اختلسها والدكِ من قصور صدام حسين. والدكِ الذي أخفيتِ عن الجميع تورّطه في قيادة فرقة كومندو دخلت بغداد سرّاً، بعد سقوطها، ووضعت يدها على مقتنيات وهدايا قصور صدام الثمينة ونقلتها إلى واشنطن، هي وصناديق ملايير الدولارات المخبئة بأقبية القصور.
تقدم نحو حسن. نزع عنه قميصه وصاح مشيرا بأصبعه إلى وحمة في شكل فراولة تؤثت مكاناً صغيراً بالجهة اليسرى من صدره:
– انظري إلى هذه الوحمة! إنها الشيء الوحيد الذي يفرّق حسن عن حسين ويميّزه.
تقدمت ليلي نحو الميكروفون. وخطبت قائلةً:
– وردة، كاتبنا العليمة، البصيرة، السّميعة، القادرة، القاهرة، المُهيمنة. هي من نفخت الروح فينا، هي الصانع، هي الخالق الواحد الأحد لكوننا الصغير هذا. هي من قالت لـ”جريمة في الخبّازات”: كوني!، فكانت. هي وردة بكل جبروتها الدافق، المبدع، تحيي من تشاء وتُميتُ من تشاء.
في حركة هتشكوكية، ومن عمق الجانب الأيمن لخشبة المسرح، ظهر مخرج فيلم “جريمة في الخبازاتّ يمشي خلف الواقفين، في دور كهل ينزه ثلاثة من كلاب البطباط (كانيش) لصالح متجر لبيع الحيوانات. مر خلف الواقفين في صمت. غمز لوردة وواصل. توقف عند الميكروفون وصرّح باسماً:
– صدق ألفريد هتشكوك حين قال: الممثلون كالقطيع
ثم غاص في عمق الجانب الأيسر من الخشبة.
إدريس الهبري