جنان رزمك شابة ذات روح ألقة ومحلقة، احتفت ببلوغها ربع قرن من العمر بكتاب جميل وحروف محلقة في أعماق الروح فكان مولودها الأول “ربع قرن” والذي عرفت عليه أنه “نصوص نثرية”، والكتاب من القطع المتوسط بعدد صفحات بلغت 108 صفحة، ومجموعة نصوص بعناوين مختلفة بدون ترقيم ولا فهرسة، وقد احصيتها فوجدتها 41 نصا بدون المقدمة والخاتمة، ولو وضعت العنوان لكل نص في أعلاه وليس في صفحة منفردة لكانت صفحات الكتاب انخفضت الى أكثر من النصف بقليل، وآخر خمسة نصوص كانت تحت بند “قصص قصيرة”، والكتاب الذي صدر عن جفرا ناشرون وموزعون في عمَّان ودار الدندشي في كندا عام 2023 م تألق بغلاف أسود وأبيض لفتاة تمد يدها لتلتقط صورة من خمسة صور معلقة على حبل غسيل، والغلاف الأخير عبارات من الكاتبة تعرف بها على الكتاب وتؤكد فيها أنها تكتب مشاعر أنثى وربع قرن، واهداء فيه تحدٍ لكل من راهن عليها بالفشل ومقدمة تفتخر فيها بنفسها وقلمها وطريقة كتابتها.
دوما في النصوص العابرة للتجنيس والتي تأخذ التعريف العام مثل النصوص النثرية والترنيمات والخواطر، نجد نصوص تركز كثيرا على جمال الحرف والعبارات المنمقة ولكنها تبعد النصوص عن النقد الذي له قواعده في الشعر وأساليب السرد كما الرواية والقصة، وهذا يدفعني للسؤال: ماذا أرادت جنان رزمك أن توصله إلى روح القارئ؟ وهذا ما سأحاول الولوج إليه في هذه العجالة، حيث سأحاول التقاط ما وراء السطور للوصول إلى “الكثير الذي قد لا يترجمه القلم” كما تقول على صفحة الغلاف الأخير، ومحاولا أن أتجاوز ما قالته في المقدمة: “ربما لا أكتب بتلك الطريقة.. الطريقة التي تجعل الأدباء والعلماء يتدبرون شيفرة أحرفي”، مع تحفظي على استخدام كلمة “علماء” الذين دورهم في العلوم وليس في الأدب.
ومن خلال التنقل بين نصوص الكتاب نجد أن الكاتبة قد ركزت ما تكتبه في محورين هما العقل والقلب وهذا ما سنراه بجولة في الكتاب:
العقل: حيث تؤكد الكاتبة على التفكير العقلي والابتعاد عن الانجرار العاطفي، كما في نصها الأول “يقظة” حيث تقول: “العقل يحرك ميزان الشرائع”، وتؤكد على استخدام العقل في القرار في نص “لهيب الصيف” بقولها: “ماذا وإن ودعنا مع بداية هذه الصيف كل ذكرى يتخللها الشكوك؟”، وفي نصها “سر جمالها” وهو على لسان ذكر تقول: “لقد خسرتها، لأنكَ لم تفهم بعد سر جمالها”، فهذا الفهم يحتاج العقل وليس العواطف كما تقول في نفس النص: “تركتَ قلبكَ يسكن بجوارها ومن ثم ذهبت”، ونرى نص “لأنها هي” أيضا على لسان ذكر يؤكد ضمن تفكير عقلي: “لأنها هي تستحق كل ذلك، للوصول إليها..”، وفي نص “اشتقت اليكَ” تؤكد على العقل بقولها: “لو كنت فطن البديهة لرأيت اسمكَ بين حروفي”، وفي نص “مع سبق الاصرار” نجد دور العقل في النص حيث تتسائل: “ما هذا الزمن الأغبر الذي قد وصلنا اليه؟”.
وتستمر في التفكير العقلي ونراها في نص “لو أن للعمر وطنا” تطرح مجموعة من الخيارات العقلية كانت ستختارها لو كان للعمر وطنا، ونفس التفكير في نص “مقصلة الوقت”، وكذلك التفكير العقلي في نص “في محطة الانتظار”، وفي نص “يا ليل” الذي تنهيه بعبارة: “تأملت الماضي فوجدت بأن للنسيان نعمة”، وتواصل العقلانية في نصوص أخرى منها “فاتورة مدفوعة مقدما” وفي نص “طفلة متمردة” ونص “نسائم يناير” ونص “تأتي الحياة بما لا نشتهيه” ، وأيضا نص”لماذا” ونص “لم أدّعِ المثالية” ونص “أقنعة مزيفة” ونص “لا ذنب لهم” وهو نص يتحدث عن الفقراء تحت الخيام فتقول فيه: “تتكرر المأساة مع كل ولادة.. وكل ذنبهم أنهم ولدوا في هذه البقعة من العالم”، وفي نص “لاجئ على حدود الوطن” كانت أقرب للوطن السليب، وكذلك في نص “حق العودة”.
القلب: والكاتبة تحلق في فضاء الحب بمفهومه الواعي وليس الذي يغلف الشهوانية بالحب أو المحدد بين ذكر وأنثى، وفي نصها “انبلاج الحب” تقول: “الحب الذي يجعلنا خلاقين للكثير من الجماليات” وتقول في نفس النص أيضا: “دائما ما كان لإنبلاج الحب أثر يمنحنا النور”، وتقول أيضا في نفس النص: “مفهومنا له ليس فقط بانحصار علاقة بين ذكر وأنثى، بل هو ما يجعل بصيرتنا أكثر نضجا لقبول الحياة”، وهكذا كان محور الحب لدى الكاتبة جنان رزمك في النصوص قائما على الأفق الواسع والانساني والروحاني، حيث نجدها تقول في نصها “نظير الروح”: أنا لا أخشى من يعشق بالروح، لأن هذا السر السماوي مقدس، لا يدركه إلا كل متيم”، والآخر الذي يسكن القلب هو: “الحقيقة الثابتة في قلبي” كما تقول الكاتبة في نصها “الحقيقة الثابتة” وتنهي النص بالقول: “هذا الشتاء بارد جدا.. لأنه يفتقدك”.
القلب يتنقل في أرجاء الكتاب، والحب يواصل الإنثيال، حيث نرى في نص “قِبلةُ قلمي” قولها مخاطبة الآخر: “أنتَ من رويت ظمأ قلمي ومددته بالأمان المطلق”، وإن كنت أرى أن استخدام كلمة “المطلق” في هذا الموضوع خطأ، فلا يوجد مطلق بالسلوك الانساني، ولو قالت “الكبير” لكان المعنى أصوب وأصح، وفي نصها “طفلة بداخلي” تؤكد على الحب المتسع الأفاق بقولها: “إن الحياة ستفتح ذراعيها لي بقدر الحب الذي أحمله”، ويتكرر الحب في نص “مطر وحرب” ، فتقول في نصها وهي تخاطب الآخر وهو بين مدافع الحرب: “لكل الناس أوطان، لكن وطني الحقيقي يكمن بين ضلعيك”، وفي نص “تحت سماء واحدة” تقول: “بإسم الحب نكتب.. يا حبيبي، يكفينا أماناً أننا تحت سماء واحدة”، وفي نص “كفاك يا قلب” تقول: “كفاك يا قلب.. كفاك من التعب”، بينما في نص “المعزوفة الكاذبة” تخاطب الآخر بالقول: “لست آسفة عليك” فهي ترفض أن تغفر، وكذلك تواصل همسات القلب في نص “تنهيدة” وفي نص “جحافل الأيام” ونص “لن أعود” ونص “ما أحمقني على هذا التمسك”، بينما في نصها “إلى معلمتي الاولى” تحاول أن تعطي الأم بعض من حقها، وفي نص “الحضن الدافئ” تشير للأمان في حضن الأب.
وهكذا في تجوالي مع مؤلفة الكتاب وجدت نفسي في نصوص جميلة تتراوح بين جمال العبارات والكلمات، وإن كانت الكاتبة تركز على الشكل الجمالي باختيار الكلمات أكثر من التركيز على المحتوى للنصوص بحيث تحول بعضها وأجزاء من غيرها إلى زخرف من القول، والتركيز في الحديث عن الحب بمفهومه الشامل، والاشارة مباشرة أو بشكل غير مباشر للعقل ودوره في الحياة، وإن كان مفهوم الحب يأخذ منها مساحات أكبر والقلب تعتمد عليه كثيرا فيتكرر الحب في النصوص المختلفة، لكن أجد من الضرورة الاشارة إلى نص “ربع قرن” والذي منح الكتاب اسمه، وهذا النص كان يصلح أن يكون تقديم للكتاب من الكاتبة، مع ملاحظة أن الكاتبة تشير أنها تكتب من ربع قرن كما في عبارات وردت بالنص: “ربع قرن أناجي فيها وجع أمة تبكي بلا صدى”، “ربع قرن أرفع معها صوت الحق ولا أخشى”، “ربع قرن أشرح فيها معنى الحب والهوى”، وهنا نجد مسألة لغوية تقول: “يقول الكل ويقصد الجزء” وهي قد بلغت من العمر ربع قرن وبالتأكيد أنها تقصد آخر سنوات من عمرها الذي عاشته قبل صدور الكتاب، مع ملاحظة أن الكتاب أقرب للوجدانيات العاطفية منه إلى مخاطبة “وجع أمة تبكي بلا صدى”، ورفع “صوت الحق”، فالوطن حظي على نصوص ثلاثة في الكتاب فقط..
أما آخر خمسة نصوص والتي صنفتها الكاتبة بأنها قصص قصيرة، فهي أقرب للخاطرة الجميلة المطولة من القصة، فالقصة القصيرة لها مواصفات وقواعد خاصة افتقدتها هذه النصوص، ومن أهم القواعد أن القصة القصيرة هي سرد نثري قصير يقدم بالعادة حدث محدد بشخصية واحدة في الغالب أو عدة شخصيات تلتقي في الزمان والمكان لتقدم حدث معين وتتحدث عنه، وهذا ما افتقده النص الأول “صدى الحكاية” وكذلك النص الثاني “ملحمة الحب” والتي استخدمت الكاتبة فيه كلمة “برواز” وهي كلمة فارسية والأجدر كان أن تستخدم كلمة “إطار” العربية، ونجد أن نص “حتى الأبد” كان حوارية بين هو وهي وليس قصة، ونص “رسالة بدون عنوان” لو اشتغلت عليه الكاتبة أكثر لكان قصة قصيرة، بينما النص الأخير “قلبي الذي ما عاد معي” حمل الكثير من سمات القصة القصيرة.
وفي النهاية لا أخفي تمتعي بقراءة الكتاب، وبغض النظر عن بعض الهنات التي أشرت لها، يبقى مستوى الكتاب جيد وخاصة أنه المولود الأول للكاتبة التي ما زالت في بداية شبابها ومسيرتها في الكتابة، وأهمس للكاتبة بعبارتها الأخيرة التي كانت خاتمة الكتاب: “رحلة الحياة ما هي الا وجه آخر للكتابة”.
بقلم: زياد جيوسي / عمَّان