في جلسته الروتينية على واجهة مقهى الحافة المطلة على السماء والبحر، صحح من وضع النظارة الطبية أمام عينيه وتخلص من هاتفه المحمول، إذ ألقاه بشيء من العنف على الطاولة الصلدة المرصوفة بالزَّليج ثم استرسل في تعقب خيط البخار الرفيع المنبعث من فنجان القهوة. بعد ثوان قليلة، سيتبدد الخيط الأول ثم يتبعه خيط آخر إلى أن تبرد القهوة فتنتهي مسيرة التعقب، ويعود به التفكير إلى البحث في ذاته عن أثر للنشاط الذي زعم الراعي القديم أنه اكتشفه في سلوك عنزاته عندما يَسرَحها في براري البُن. لا يجد شيئا من الحيوية بل يشعر بتغوُّل الخمول والأسى والأنين…
هذا البحر الذي يتمدد أمامه ألم يتعب من اجتراره لعمله المكرور في المد والجزر؟ يرغي المسكين غضبا بزبد يذهب جفاء وقد استباحت هيبته البواخر والغواصات بل ومراكب شراعية قزمية بطول الذراعين…
أين لعنتك يا “بوسيدون” تصيب بها من تجبَّر على البحر؟
ارتشف بعمق من قهوته آخر قطرة ثم تطلع إلى قاع الفنجان لعله يرصد آثرا لإله البحر فيُحمِّله أحزانه التي تقصم كاهله، ويعبر بها إلى ضفة “المانوَا” ثم يغلفها بذهب الإلدورادو البرونزي، فتعود إليه براقة متجددة كشمس العشي التي تسطع أمامه غسقية صافية.
ابتسم من فكرته هذه وازداد إشراقا عندما شعر لأول مرة بأن المكان يعج بتراتيل موسيقية هادئة لم تزده عصبية كما حدثه الطبيب الغريب الأطوار. ماذا لو نتفق جميعنا ألا نصدق كلام الأطباء جميعهم؟ ألن نهنأ في تعبنا ومغصنا واضطراباتنا النفسية والبدنية ونعيش معها في سلام؟
يا لهذا البحر أمامه يضحك من همساته المريبة، ويحشد الألم على مدى الأفق غماماتٍ رمادية تلتهم الألوان اللازوردية والبرونزية وتبعث السواد كوشاح يلقي بظلامه على الحافة…
عاد إليه الخمول والأسى والأنين وتطلع من جديد إلى قعر الفنجان هامسا فيه لعل إله البحر يرصد مناجاته المستكينة حينا والغاضبة أحيانا.
يا “بوسيدون” غبت ظهورا لتنبعث من فنجاني الصغير فتزيدني قلقا واضطرابا وقد توسمتُ في صفاء بحرك المحبة والسلام.
يا “بوسيدون” يا من يمتح العذب الزُّلال من الملح الأُجاج، ويكتب به شعرا بألق الزهور على الروابي وفي الخوابي وحول حدقات الأرض… ألست أنت من تعقبت آثار زوجتك الفاتنة “أمفيتريت” إلهة الطبيعة إلى أعالي جبال الأطلس حيث تركتْ من جمالها بصمات خالدات على الرواسي وساكنة الجبال. وأسميتَ فوق سمائنا الكواكب كلها باسم دلفينك الوفي الذي أرشدك إلى مخبإ الإلهة “أمفيتريت”؟ …
إذن، أين أنت يا “بوسيدون” يا حارس البحار والأوقيانوسات من الوفاء لذكريات الأرض والماء والجمال؟
أين أنت يا واهب الخيرات وصانع المعجزات في رفع العواصف وهزم البواخر وتشكيل المجرات؟
رن هاتفه معلنا وقت الغسق، فتدفقت من جنبات حلقومه مياه مالحات. مشدوها تحسس عنقه فإذا به يتلمس خياشيمَ تصدر زفيرا محشرجا كصوت اختناق السمك الخارج للتو من الماء. نظر من علياء الحافة إلى أفق البحر فقفز فرحا إلى الماء وأثر صوته يملأ المقهى بالدهشة والخوف…
فداك يا “بوسيدون”، سأمزج الماء والسماء تاجا فوق هامة الإنعتاق، وأرتق فجاج الجبال فتسلك للعابرين على ناصية الحلم.
بقوة ضرب بزعنفته على سطح الماء فتوارى خلف الموج والضباب…
ياسين لمقدم / كاتب من المغرب
هامش:
بوسيدون: إله البحر والعواصف والزلازل والخيول في الأساطير اليونانية.
أمفيتريت: إلهة الطبيعة وزوجة بوسيدون.
المانوَا: مدينة أسطورية في أرض الالدورادو.