على منوال أصحاب المذهب الذري القديم سار الفيلسوف والرياضي غوتفريد فيلهلم لايبنتز بخصوص تصوره للذرات او المونادات التي تحدث عنها باستفاضة في كتابه “المونادولوجيا او مبادئ الفلسفة”، بيد انه اختلف مع الذريين في بعض المسائل على رأسها امتداد الذرات. فما هي المونادا عند لايبنتز؟
تُطلعنا التجربة الباطنية عن كائن روحاني يفكر ويحس ويريد، وهو وحدة جوهرية لا جسمية، غير قابلة للتجزئة بمعنى انها وحدة غاية في البساطة لا أجزاء فيها، كما انها دائمة بالرغم من التغيرات التي تمر بها، هذه الوحدة يطلق عليها لايبنتز لفظ “مونادا” (لفظة يونانية الأصل تعني الوحدة).
المونادا ليست ثابتة ذلك انها حاصلة على ميل (يسميه لايبنتز النزوع) يدفعها الى ان تمر من إدراك لإدراك اخر ووجود هذا النزوع في المونادا يفسر اللذات والالام والرغبات والشهوات. يقصد لايبنتز ان المونادا لا تعرف إدراكا واحدا فحسب بل تعرف مجموعة من الادراكات، فهي تعي الخوف والفرح والدهشة…فلو كانت المونادا تتوقف عند إدراك واحد كالبهجة مثلا لما كان ثمة وجود لأي إدراك اخر عند المونادا.
المونادا إذن هي جوهر لامادي بسيط وخالد، من خصائصه التفكير والاحساس والإرادة والنزوع.
يمكننا فهم المونادا عند لايبنتز بشكل دقيق من خلال فهم علاقتها بالإدراك والخلود.
المونادا والادراك:
يرى لايبنتز ان العالم بأسره مكون من مونادات مماثلة للمونادا التي نعثر عليها بواسطة التجربة الباطنية وهو ما يفسر الوحدة في العالم، بمعنى تناسقه، وكل مونادا تعبر عن العالم تعبيرا يختلف عن تعبير المونادا الأخرى وهذا ما يفسر التنوع في العالم، بمعنى ان كل مونادا تدرك العالم من جهة خاصة بها، فهي بمثابة عالم مصغر يعكس العالم الأكبر. هو التصور نفسه الذي جاء به ديمقريطس من خلال قوله: لا بد ان تكون الذرات (الذرة عند ديمقريطس هي المونادا عند لايبنتز تقريبا) ليست متماثلة والا لن يكون هناك تفسير لتنوع الاشكال المختلفة.
وفي هذا الاطار يشبه لايبنتز ادراكنا للعالم الخارجي بالحلم مع وجود اختلاف بينهما وهو التماسك، فإدراكاتنا هي حلم متماسك وقائم على أساس، ذلك انه من خصائص الحلم ان يكون مجموعة صور شخصية يدركها الشخص ولا توجد الا في نفسه وبنفسه ولنفسه، لكن صور الاحلام العادية ينقصها التماسك فهي مفككة، اما ادراكنا للعالم فهو عبارة عن أسس وصور نعتقدها حقيقية ولكنها ظل…والفرق الوحيد بين الحلم والواقع هو في تماسك أجزاء كل منهما فأجزاء احلامنا غير متماسكة ومتقطعة بينما ادراكاتنا مستمرة ومتماسكة وذلك لان هذا الحلم المتماسك قائم على أساس.
ان ادراكاتنا تمثل لنا عالما ماديا ممتدا حائزا على صفات عديدة من لون وحرارة…وهذا العالم واقع في الفضاء ويتغير في الزمان، لكن العالم في الواقع هو مونادات جسمية غير موجودة في الفضاء ولا في الزمان لأن الزمان والفضاء لا يوجدان خارج المونادات، ذلك انهما حاصلان من ملكة التصور الموجودة في المونادات. هذا يعني انه لا وجود للفضاء والزمان فعليا كما نتصور، بل هما موجودان في تصوراتنا فحسب. يقصد لايبنتز ان العالم المادي الذي يتراءى لنا (أشجار، جبال، سيارات، بنايات…) لا وجود له في الفضاء او الزمان انما يوجد في أنفسنا فقط.
بيد انه ثمة تناسق كامل بين العالمين؛ العالم المادي كما يبدو لنا (ما نسميه “الواقع”) وعالم المونادات (العالم الفعلي الخالي من الفضاء والزمان حسب لاينتز)؛ فالعالم الذي ندركه يرمز الى العالم الحقيقي دون ان يكون شبيها له. بمعنى ان هناك اختلاف بين عالم المونادات والعالم المادي الذي يبدو لنا.
وفي هذا السياق يلتقي لايبنتز بالعديد من الفلاسفة من بينهم افلاطون الذي يرى ان كل ما نراه حولنا ليس الا انعكاسا لشيء ما في عالم الأفكار وبالتالي في النفس الإنسانية، معتقدا ان وراء هذا الكون المحسوس ثمة أفكارا قد سبقته وهي بمثابة الأصل والروح ، ولعل هذا ما أكده ديكارت بقوله إن الكيفيات الثانوية في الاجسام هي في الواقع حالات ذاتية بمعنى يشعر بها الانسان؛ فلا اللون هو كما نشاهده ولا الصوت هو كما نسمعه ولا الحرارة ولا الصلابة…هي كما نشعر بها، ان كل هذه الكيفيات لا توجد إلا في تصوراتنا ولا معنى لها سوى توجيه وإرشاد حياتنا.
يعلل لايبتنز التناسق الموجود بين جميع الادراكات بأن الله جعل بالقوة منذ بداية الخليقة في كل مونادا مجموعة الادراكات التي ستحوز عليها وكوّن كل المونادات بحيث ان كل واحدة تنشر ادراكاتها كأنها لوحدها ولكنها تتفق وادراكات باقي المونادات لحظة بلحظة، فإدراكاتنا لا تأتينا من الخارج بل تخرج من باطننا كأنها خارجة من نبع متدفق.
يقصد لايبنتز ان ادراكنا للأشياء بطريقة واحدة موحدة لا يعني انها هي كذلك في الواقع، بل يعزى ذلك لكوننا خُلقنا مزودين بهذا الادراك الموحد، فرؤيتنا للباب على شكل معين ولون معين وخصائص معينة…ليس لأنه متحقق كذلك في الفضاء والزمان، بل لان هذا الادراك الذي أدركت به الباب موجودٌ سلفا في تصوري وتصور جل المونادات الأخرى، فقد جُعلنا منذ البداية حيث ندرك الشيء كما ندركه وهذا ما يفسر الاتفاق بين إدراكاتنا.
المونادا والخلود:
يعتبر لايبنتز ان العالم أبدي لا نهاية له وكذلك المونادات التي يتشكل منها العالم، فمدة المونادات مساوية لمدة العالم، ويستدل في ذلك بكونها لا تتوفر على أجزاء الشيء الذي يعني انها لا تتكون ولا تنحل، وعليه فهي لا تستطيع ان تبدأ بداية طبيعية او ان تنتهي نهاية طبيعية، وفي هذه النقطة تحديدا يلتقي بديمقريطس مجددا في تصوره القائل ان كل شيء مركب من عناصر صغيرة جدا تسمى ذرات وكل ذرة ابدية ودائمة ويجب ان تكون عناصر تشكيل الطبيعة ابدية لأنه لا شيء يولد من العدم.
المونادات لا تولد ولا تموت بالطرق الطبيعية أي بواسطة التناسل والتلاشي، اذ لا يوجد تولد كامل ولا موت خالص بمعنى الكلمة؛ فما نسميه “تولدات” هو نمو واتساع، وما نسميه “موت” هو تحديد ونقصان ، اذ يعتبر لايبنتز ان الولادة والموت في الحياة الحاضرة هما حالات انتقالية أي تغيرات في الفرد، فبالنسبة للولادة ثمة تكوين سابق للكائن حسب لايبنتز ويتم الانتقال من حالة الى حالة أخرى بواسطة الحمل او التبرعم او القسمة… فالحيوان المنوي يتحول لجنين ثم إنسان، وكذلك الديدان تصبح ذبابات، والشرانق تغدو فراشات…اما بالنسبة للموت فيشبه لايبنتز الجسم باللباس الخارجي الذي يرتديه الانسان ويجدده باستمرار كلما قدم، فعندما يموت جسد ما فان الذرات تتفكك من جديد ويمكن ان تعود فتتجمع لتشكل اجسادا جديدة (الامر شبيه بلعبة تركيب القطع الصغيرة ) على حد قول ديمقريطس، فالجسد يفنى ويزول بينما المونادا تبقى وتدوم.
بعبارة وجيزة يمكن القول ان حالتَي الولادة والموت عند المونادا هما عبارة عن تغير فيها، ففي الولادة يحصل هذا التغير بواسطة الحمل او التبرعم او القسمة، وفي الموت يحصل بواسطة تجديد الجسد. عليه فالمونادا تتبدل دون ان تزول، وتدوم مادام الكون يتبدل دون ان يزول.
السؤال الذي طرح نفسه عليَ بشدة بعد فهمي البسيط للمونادولوجيا عند لايبنتز هو: لو أدركنا واستوعبنا (وأُسَطِّر على “استوعبنا”) أنَّ ما نعيشه (ندركه) موجودٌ داخل تصوراتنا فحسب، ولا وجود لشيء ثابت ومتحقق…أ كنا سنعيش في هذا الصراع الدائم، والقلق الدائم، والانفعال الدائم…؟ أ كنا سنتعاطى مع الحياة بالجدية التي نتعاطى بها معها الآن؟
خولة الكوطبة