عزيزتي المتواصلة بحب،
لربما أشتاقك كلما سكنت مكانا جديدا بجزاف،
إن أمكنة لا تزدحم بذكراك، وتفاصيل أيامك، هي أمكنة رمادية، لا تفصح عن لون، أمكنة فقيرة إلى المعنى.
ومن جانب آخر، إن مكانا يخلو منك، هو مكان يحررني من ثقل الذكرى، ووطأة الحنين.. أتخيلك ترمقينني بعينين وامضتين، لذا سأستبق السؤال الذي كنت لتطرحيه عليّ، وأطرحه أنا عليك: هل الحب يغتال الحرية؟
أترقب إجابتك في الرسالة المقبلة،
أما عن طنجة، لقد رحلت إليها، ولم أحمل سوى عطرك وضحكتك، وألفة عينيك. بالطبع جلبت ثيابي كذلك!
اسمعي مني عن طنجة الهادئة في ضجيج والضاجة في هدوء:
– لقد بدأت أفقد دهشتي بطنجة كمكان ساحر يا صديقي!
-اعتياد الأماكن يفقدها رونقها، حتى لو كان المكان روما أو بوسطن.
-الأمر مخيف!
-الأمر بسيط؛ يجب أن يتحرر المرء من المكان والزمان، كلاهما مجرد وهم جميل!
كان هذا حديثا عارضا عن طنجة التي أعيتنا بتناقضاتها كما أعيت قبلنا شكري ومارك توين وايديث وارتون وباتريشيا هايسميث، ولم يظفروا منها جميعا حتى بقبر محترم، مع أن القبور في مجملها لا تحترم خيلاء النفس وأنفتها عندما تحل بها وترد عليها. لقد عجزت حتى اليوم عن ضبط علاقة مستقرة مع هذه المدينة، وفشلت في تبني موقف واضح منها بالقبول أو الرفض، بالألفة أو الغرابة. ببساطة، لأن طنجة ثقب أسود ضخم لعين يبتلع كل شيء، لا ينتقي ولا يسْتقي، ولا يتّقي ولا يستبقي.
تضم بين ثناياها المنفرطة تناقضات فادحة جارحة، تطوي في أحيائها الخلفية عشرات المهاجرين الجبليين الجدد، وتؤوي عشرات من الشباب الهاربين من شظف وجفاف الجنوب، كما أن بها مهاجرين أفريقيين يطلون بعيون تعبة مستجدية إلى الضفة الأخرى، إلى ذلك العالم الذي تنتهي عنده كل مآسي الحياة، جاهلين بأن المأساة واحدة وتجلياتها شتّى. تتجمل طنجيس للمتأنقين وتتملق المتألقين، لسيارات فارهة مرقونة بأرقام أوروبية أو عاصمية، تغازل أحياء جذابة تصطف فيها مبان عصرية بشكل بديع، وعلى مرمى حجر تصطك أحياء أخرى اصطكاك أسنان كلب مسعور سخطا وغيظا، مجمعات سكنية هي أقرب إلى كولومبيا منها إلى المغرب!
تقبل طنجة المِثْلي وتقبل الشّره إلى الجنس الآخر مثلي، تبجل العلماء وحلقاتهم، وتضج بالأولياء ومزاراتهم، تزخر بالصالحين وزواياهم، تلك التي تجاور أحيانا كثيرا حانات ونواد ليلية. تمجد عروس المتوسط المارقة من زفافها، المحافظين والحداثيين، والفقهاء والكتاب والفنانين. تفسح للمساجد وللمصانع ولمقاهي الشيشة وللملاهي وللكازينوهات، للمكتبات الفاخرة، ولدور العرض وللمراكز الثقافية، وللأسواق الشعبية المكتظة، لأشياء وأخرى تمزج أنساقا متناقضة بنقيضاتها، تحكمها جميعا حدود مترهلة، تجعل هذا التداخل محيرا غير مستساغ، لأن المدينة، ببساطة، تعيش أزمة هوية فظيعة.
تلمح عند الناصية، مبنى سيرفانتيس: المركز الثقافي الإسباني الذي يبدو عتيقا مستندا إلى الجبل وراءه في لهاث، أعيته السنين وأعياه الحنين، وأذله نسيان الناسين وبول المشرّدين، وهناك قبالته بشرفة شقة اقتصادية متسخة تقبع بعمارة مهترئة، تلحظ مجموعة ملابس داخلية نسائية منشورة على عجل، في وجه بناية بتاريخ سيرفانتيس وحمولتها التاريخية والفكرية، إنها مفارقة بصرية غريبة تعكس الرعونة التي أصبحت المدينة ترزح تحتها.
تجاوز إلى السوق د برا حيث تؤدي أسرة رثة الثياب مغبرة القسمات، حركات خفة، ممارسة نوعا من فنون الشوارع، يتجمهر جمع لا بأس به من القوم.. تحمل الزوجة، اللابسة بيجامة منزلية، زوجها فوق كتفيها ويقف منتصبا هناك، ثم يقوم بحمل ابنهما بدوره ليقف على كتفيه، ليشكل الثلاثي هرما جميلا يتعالى في الفضاء.. متعاليا على الفقر المادي، وفقر الذائقة الجمالية وفقر المعنى. تقول واحدة لأخرى : إنهم مساكين، أشفق على حالهم.
أما أجنبية فتمر من وسط حلقتهم غير عابئة بالجمع، ماضية وكأنها تمر بمجموعة كلاب ضالة تتجاذب حفاظة طفل تظنها بقية وجبة! تقطع العرض بوقاحة وعجرفة تسائل مركب النقص عندنا لما يتعلق الأمر بالأجنبي. يقسم لي الصديق أنه حضر عرضا بالمعهد الفرنسي لا يرقى إلى مستوى ما تقدمه هذه الأسرة، التي انصرفت بعدما حصّلت الكثير من كلمات الشفقة وقهقهات السخرية وبضعة دريهمات.. انصرفت دون أن تحصّل تصفيقة تقدير واحدة!
كيف أصبحنا ما نحن عليه حقا؟ من جفاف وجفاء طبع، ومن هبوط في معاني التقدير والاحترام واستشعار الجمال وتعاطيه؟ ولم نرفض الاعلاء من شأن بعضنا البعض ودفع غيرنا إلى تثمين ما يحسنونه ويستحسنونه؟ لم نصر على تثبيط من يؤمن بشيء من الإبداع ويجتهد لينفلت من نمطيتنا وعبثيتا ؟
لم يكن الهروب من هذه الأسئلة الضاجة إلا إلى المدينة القديمة حيث الحوار الأزلي بين الأصيل والدخيل، بين مقهى طنجيس ومقهى سنترال المتجاورين، المتجاوزين، المتناقضين. طوينا الدروب المفعمة بروائح التبسط الشعبي المعروك بعرق ودماء البسطاء الزكية، بروائح حلوياتهم وجلود ذبائحهم وسِواك نسائهم وحشيش شبابهم، تلقفتنا الأزقة الروحية المظلمة التي نهاب السير فيها، لكننا مشينا قليلا، مشينا شئنا ذلك أم أبينا، ظللنا نمشي ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، كان السير متسارعا ونوستالجيّاً مثل تنهيدةٍ للعربي باطمة أو موال أطلسي لرويشة، كان مثل توَهان مجذوب في السهوب، كان سيرنا في طنجة عطاءً وكان حرمان، مثل خطاب حب منهمر ينزّ بعد طول كتمان.
المشتاق، إليكم، بإغداق.
أجدور عبد اللطيف