تألقت الممثلة القديرة نجاة الوافي في تشخيص دور المعلمة كنزة، بتمكنها وتلقائيتها المعهودة وحضورها الوازن أمام الكاميرا، عبر تعابير جسدية موزونة: حركات ونظرات وكلام وتقاسيم وجه … وهذا الدور الجديد لها في السلسلة التاريخية “حرير الصابرة” (أربع حلقات خلال رمضان الجاري بمعدل حلقة كل ثلاثاء ليلا) مختلف تماما عن باقي الأدوار السينمائية والتلفزيونية التي سبق لي أن شاهدتا فيها في السنوات الأخيرة.
إلى جانب نجاة الوافي شاركت في نفس السلسلة ثلة من الممثلات والممثلين المجربين كالقدير عز العرب الكغاط والمتمكنة هاجر كريكع والشابين سعد موفق وهند بن جبارة، التي أدت أغنية الجنيريك، وعبد اللطيف شوقي وأنيسة العناية ورباب كويد وآخرين، بالإضافة إلى وجوه محلية فاسية شابة ومخضرمة، تفاوت أداؤها للأدوار المسندة إليها، نذكر منها بالخصوص خالد الزويشي والخمار المريني والعربي الزهراوي ومحمد العلمي…
الممتع في هذا العمل التلفزيوني الجديد للمخرج الشاب يزيد القادري، الذي تابعت بإمعان حلقته الأولى (مدتها 42 دقيقة) ليلة الثلاثاء 12 مارس الجاري وأعدت مشاهدتها على منصة اليوتوب، وبغض النظر عن قصته، أنه شدني إليه بفضاءاته الداخلية والخارجية الجميلة التي صورت فيها مشاهده، خصوصا المنازل والرياضات والجنانات ومجالس العلم وغيرها التي نجحت كاميرا وليد لمحرزي علوي في تصوير زخارفها وأبوابها ونوافذها وحيطانها وحدائقها بشكل جميل يثمن تراثا حضاريا ماديا مغربيا ساهمت في صنعه عقول وأيادي حرفيين مهرة متخصصين في النقش على الجبس والخشب والمعادن وترصيع الجدران والأرض بقطع من الزليج مختلفة الأحجام ومتناسقة الأشكال والألوان وإبداع مصنوعات من القصب والحرير والخشب والصوف وغيرها من المواد، لا يخلو منها أي منزل مغربي أصيل (الكبراتة نموذجا).
فرغم الرتابة الملحوظة في بعض المقاطع، والإيقاع البطيء أحيانا، يمكن القول إجمالا أن تركيب لقطات ومشاهد هذه الحلقة الأولى من السلسلة لا يخلو من سلاسة وتشويق ومسحة كوميدية خفيفة. زد على ذلك أن كلمات الحوارات مختارة بعناية وتتضمن بعض الحكم والأمثال النابعة من تراثنا الحضاري القديم. وهذا ليس غريبا على كاتب السيناريو المحنك منصف القادري، المهووس بالتراث الحضاري المغربي الأصيل، والعارف بتفاصيل وخصوصيات فاس العالمة وتاريخها العريق. فأجواء وعوالم هذه السلسلة الدرامية التاريخية تذكرنا بعوالم وأجواء سلسلة “عين كبريت” (2022) للمخرج محمد عهد بنسودة عن سيناريو لنفس الكاتب منصف القادري. فإذا كانت “عين كبريت” قد سلطت الأضواء على فاس وناحيتها في مرحلة تاريخية معينة من خلال شخصيات معروفة عند المغاربة كمولاي يعقوب ولالة شافية، فإن أحداث “حرير الصابرة” تجري في زمن السلطان فارس أبو عنان المريني (القرن الثامن الهجري) وما عاشته فاس خلال حكمه، وهي في أوج ازدهارها الإقتصادي والعمراني والعلمي، من حضور لشخصيات فذة كالرحالة إبن بطوطة وغيره واكتشافات كالساعة المائية والنبات الذي عوض حرير دود القز وطرق علاج المرض النفسي (بالموسيقى والطرب الأندلسيين) وحول العينين (بمتابعة السمك في حوض الماء)…
يبدو من أحداث قصة “حرير الصابرة” المتشابكة أن هناك صراعا شرسا بين معسكرين أحدهما يرمز إلى قوى الخير وما تمثله من قيم الحب الصادق والوفاء والعلم والمعرفة والنزاهة والإخلاص وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة، والثاني يرمز إلى قوى الشر وما تتشبع به من أنانية وخسة ونذالة ووصولية ومكيدة… نجد في المعسكر الأول شخصيات من قبيل المعلمة كنزة (نجاة الوافي) وإبنها يوسف (سعد موفق) وتلميذاتها مريم (هند بن جبارة) وزينب (أنيسة العناية) وغيرهن، كما نجد الحرفي المعلم بنبراهيم (عز العرب الكغاط) والراضي (الخمار المريني) وآخرين … أما المعسكر الثاني فيتشكل من شخصيات زهرة (هاجر كريكع) وزوجها جعفر (عبد اللطيف شوقي)، تاجر الحرير، ومساعده سليمان (أمين بالمعزة) والشابة عيشة (رباب كويد) وعلي (خالد الزويشي)، زوج زينب، وآخرين …
يجد المتلقي المغربي ذاته وجوانب من خصوصيته الحضارية والثقافية في هذه السلسلة، بمسحتها الوثائقية ومقاطعها الموسيقية الهادئة في الغالب، لأنها تذكره ببعض المهن التقليدية الرائدة المرتبطة بالحرير والصوف وغيرهما كالدرازة والطرز على القماش وخياطة ملابس النساء (القفطان) والرجال (الجلباب) والأطفال وغيرها، وهي مهن شهدت تطورات عبر العصور ولا زال بعضها يحتل إلى اليوم مكانة بارزة في تاريخنا الحضاري.
ولعل السر في تميزها إبداعيا يرجع إلى فريق العمل المتجانس، الذي يتشكل في غالبيته، إلى جانب المخرج، من شباب دارس ومتمرس وموهوب، يضم منفذ الإنتاج فيصل القادري ومدير التصوير وليد لمحرزي علوي ومهندس الصوت ياسر غرابة والموضب محمد طيبي والمساعدة الأولى للمخرج وجدان خاليد وواضع الموسيقى التصويرية أكسيل كميل ومصممة الملابس رشيدة عدنان… بالإضافة إلى آخرين من بينهم بالخصوص القيدوم مصطفى التومي في الديكور.
لقد أصبحت قنواتنا التلفزيونية في السنوات الأخيرة تنتج كما لا بأس به من الأعمال التلفزيونية المتنوعة، بغض النظر عن مستواها الفني وقيمتها الفكرية، تنفذ إنتاجها شركات ويقوم بإخراجها مخرجون ومخرجات ويشارك فيها ممثلون وتقنيون وغيرهم ينتمون إلى مختلف جهات المغرب، بحيث يمكن الحديث عن أقطاب لكل منها خصوصية ما: قطب مراكشي، قطب شمالي، قطب بيضاوي، قطب ريفي، قطب سوسي، قطب صحراوي، قطب فاسي… المطلوب هو تعزيز هذا التنوع بدخول المجالس الجهوية والإقليمية والحضرية والقروية على الخط لتشجيع هذه الإنتاجات ودعم تطويرها بالإمكانيات المالية واللوجيستيكية المناسبة، وفق شروط محددة، خصوصا منها الأعمال ذات الطبيعة التاريخية والتراثية التي تتطلب إمكانيات أكبر مما توفره ميزانيات القنوات التلفزيونية العمومية. هذا بالإضافة إلى إعطاء الأولوية للإنتاجات الذاتية والمستقلة المشرفة إبداعيا.
تنتمي سلسلة “حرير الصابرة” (2023) إلى قطب فاس لأن وراءها مبدعون متشبعون بالتراث الحضاري لهذه المدينة العريقة ومنهم السيناريست المبدع منصف القادري، الذي اضطلع أيضا بمهمة المدير الفني وساعد في تصميم الديكور، وابنيه يزيد (المخرج) وفيصل (المنتج) وهذا القطب يضم كذلك المخرج محمد عهد بنسودة وثلة من الفنانين والتقنيين الآخرين. إنها سلسلة محترمة على أكثر من صعيد، الشيء الذي جعلها تشكل نقطة ضوء، إلى جانب أعمال أخرى قليلة مع كامل الأسف، ضمن إنتاجات رمضان الحالي. تصوروا معي لو وفرت لإنجاز هذه السلسلة التاريخية وغيرها إمكانيات أكثر، من قبل المجلس البلدي والمجلسين الجهوي والإقليمي ومؤسسات عمومية وخاصة أخرى، لأمكننا مشاهدة حلقات كثيرة منها (عوض أربع حلقات يتيمة) ولأمكننا أيضا التفكير بجدية في التسويق خارج المغرب (بعض البلدان الإفريقية والعربية على الأقل)، لأنه بدون تسويق وترويج لمنتجاتنا الفنية والثقافية لا يمكن أن تقوم لصناعتنا التلفزيونية والسينمائية قائمة.
أحمد سيجلماسي