تضمنت مواد جريدة “العلم” (الأسبوعي) في عددها رقم 25710 (من 9 إلى 15 فبراير 2024) ملفا حول “النقد السينمائي بالمغرب”، من إعداد الصحافي السينفيلي التهامي بورخيص، شمل حوارات في الموضوع مع بوشتى فرقزيد ومصطفى الطالب ورشيد بوقسيم ومولاي إدريس الجعيدي وعادل السمار، كما شمل أيضا ثلاث أوراق: الأولى من إعداد بورخيص بعنوان “النقد ارتبط مباشرة بظهور السينما” والثانية بقلم المختار آيت عمر بعنوان “السينما المغربية أولا” حول مجلة “دراسات سينمائية” والثالثة بقلم أحمد سيجلماسي بعنوان “إطلالة تاريخية مركزة على حركة النقد السينمائي بالمغرب”… فيما يلي نص هذه الورقة الأخيرة المنشور بالصفحة 14 من العدد المذكور للجريدة:
ارتبطت الإرهاصات الأولية للنقد السينمائي بالمغرب في صورته الإنطباعية الشفوية بالعروض السينمائية الأولى المنظمة ابتداء من سنة 1901 بالقصر الملكي بفاس ومراكش أيام السلطان مولاي عبد العزيز (1878- 1943)، الذي دأب، باعتباره أول مغربي هاوي وقف خلف كاميرا السينما وصور أفلاما، على شرح مضامين وطرق تصوير الأفلام المعروضة لفائدة أفراد من حاشيته إبان بعض العروض الخاصة التي كان يشرف عليها التقنيان الفرنسي غابرييل فير والأنجليزي جون إفري.
وابتداء من سنة 1905، بطنجة أولا، ثم فيما بعد بباقي المدن المغربية التي تتواجد بها بكثرة الجاليات الأروبية (الفرنسية والإسبانية أساسا) وغيرها، انطلقت حركة افتتاح فضاءات تجارية لعرض الأفلام السينمائية، ثم بناء قاعات سينمائية بالمواصفات المتعارف عليها، وقد واكبت هذه الحركة دعاية للأفلام في الصحافة المحلية آنذاك، الناطقة بالعربية والفرنسية والإسبانية والأنجليزية بشكل خاص، من أجل استقطاب المزيد من الزبناء لمشاهدة الأفلام المبرمجة ( الغربية أساسا والمصرية وغيرها فيما بعد).
ركزت مواد هذه الدعاية على قصص الأفلام ومواضيعها ونجومها عبر صور وملصقات ونصوص ذات طبيعة إخبارية. وهذه النصوص يمكن اعتبارها شكلا من أشكال النقد السينمائي المكتوب، الذي سيتطور تدريجيا بتطور الصناعة السينمائية وبتوسع دائرة الثقافة السينمائية خصوصا مع ظهور الأندية السينمائية الأولى بفرنسا في مطلع عشرينيات القرن الماضي وانتقال عدواها الإيجابية إلى الأرض المغربية، حيث ستبادر فئات من النخبة المثقفة الأجنبية المقيمة بالمغرب، وعلى رأسها فرنسيون يشتغلون بقطاعات حيوية كالتعليم مثلا، إلى تأسيس أندية سينمائية لعرض ومناقشة أفلام متنوعة لا تبرمج في الغالب في القاعات السينمائية التجارية.
ظهرت الأندية السينمائية الأولى بالمغرب في الثلاثينيات (أو قبلها بقليل) على يد مثقفين فرنسيين وتم انتشارها كمؤسسات جمعوية ثقافية ظلت في خدمة المستعمر الفرنسي وأهدافه، ولم تترسخ أقدامها في تربة المغرب الثقافية إلا بعد الحرب العالمية الثانية حيث اقتصر تواجدها على بعض المدن الكبرى كطنجة والرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش ومكناس أو التي كان بها فرنسيون وأجانب بكثرة كخريبكة وسيدي قاسم وغيرهما.
ومعلوم أن مصطلح “النادي السينمائي” استعمل لأول مرة في مطلع سنة 1920 من طرف الناقد السينمائي الفرنسي لوي دولوك عندما أشار في بلاغ له إلى ظهور جريدة أسبوعية تحمل هذا العنوان (أنظر: موسوعة لاروس الفرنسية، باريس 1977، ص435)، من أهدافها ربط علاقات بين السينمائيين والجمهور عبر تنظيم أنشطة مختلفة (محاضرات، عروض أفلام ومناقشتها، ورشات تكوينية…) من أجل تطوير السينما الفرنسية. وفي يونيو 1920 انطلقت أول تظاهرة من تنظيم “النادي السينمائي” بإحدى القاعات السينمائية الفرنسية وكانت عبارة عن محاضرة.
الملاحظ أن أندية المرحلة الكولونيالية كانت تهدف، من خلال برامجها وأنشطتها المختلفة، إلى إشباع بعض الحاجات الثقافية والفنية لدى الفرنسيين وبعض الأجانب المقيمين ببلادنا من جهة، ومن جهة أخرى كانت تسعى إلى تكريس التبعية للميتروبول الفرنسي وجلب الأقلية المغربية الشديدة التأثر بثقافة المستعمر وأسلوب عيشه. لقد كانت توجهات هذه الأندية السينمائية في معظمها توجهات استعمارية تخدم أغراض المستعمر عن طريق السينما وثقافتها ومنشوراتها محاولة تلميع صورة فرنسا من خلال ترويج بعض أفلامها وإضفاء طابع المشروعية على احتلالها لبلادنا وإظهارها بمظهر الدولة ذات الرسالة التحضيرية تجاه البلدان المقهورة.
بعد استقلال المغرب سياسيا بدأ بعض المغاربة المثقفين يكتسحون فضاءات هذه الأندية السينمائية المتواجدة ويساهمون في أنشطتها وإدارتها. ومن هنا انطلقت المنافسة بينهم وبين التابعين خصوصا للبعثة الثقافية الفرنسية، الشيء الذي أدى إلى تأسيس “الفيدرالية المغربية لنوادي السينما” (FMCC) التي تمثل جديدها في الإنفتاح على سينمات العالم الثالث وترسيخ الإهتمام بمنتوجات روادها البارزين، كما تمثل في إصدار أربعة أعداد بالفرنسية سنة 1970 من مجلتها “سينما 3” (CINEMA 3) تحت إدارة نور الدين الصايل (1947- 2020)، أستاذ الفلسفة آنذاك بثانوية مولاي يوسف بالرباط، والكاتب العام لهذه الفيدرالية الذي اقترح إصدار هذه المجلة لتشكل منبرا لتبادل الآراء النقدية بين النخبة المثقفة المهتمة بالسينما وفكرها وأدبياتها. وتجدر الإشارة إلى أن “سينما 3” ليست أول مجلة سينمائية متخصصة شهد المغرب صدورها، بل سبقتها تجربة مجلة “الشاشة المغربية” (L’ECRAN MAROCAIN) التي كانت تصدرها “جمعية صورة وصوت” بالدار البيضاء ابتداء من سنة 1964.
بعد تفكك الفيدرالية المغربية (أو الإتحاد المغربي) لنوادي السينما في متم سنة 1972 قام الأستاذ الصايل، رئيس نادي الرباط السينمائي آنذاك، رفقة ممثلي بعض الأندية السينمائية القوية، كنادي الشاشة بفاس ونادي الشاشة بمكناس ونادي الشاشة بتطوان وأندية مراكش وآسفي وغيرها، بتأسيس “جواسم” (الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب). ومن ممثلي الأندية التي حضرت لحظة التأسيس بالرباط تشكل أول مكتب وطني للجامعة برئاسة نور الدين الصايل، الذي ظل على رأس هذه المؤسسة الثقافية الوطنية من مارس 1973 إلى أواخر 1983، وبعده تعاقب تباعا على رئاسة “جواسم” الأساتذة آية عمر المختار وعبد السلام بوخزار ورشيد عبد الكبير والراحل محمد اعريوس (1959- 2018) وحفيظ العيساوي وحاليا عبد الخالق بلعربي. ويرجع الفضل لهذه الجمعية السينمائية الوطنية في تعزيز مكانة الثقافة السينمائية والسمعية البصرية داخل الحقل الثقافي المغربي وفي دعم المنتوج السينمائي الوطني والتعريف به على نطاق واسع، وذلك على امتداد نصف قرن بالتمام والكمال.
يمكن القول إجمالا أن النقد السينمائي بالمغرب وخارجه، قد ارتبط ظهوره بشكل أساسي بحركة الأندية السينمائية، التي انطلق شفويا داخلها (مناقشة الأفلام وتحليلها وتقييمها…) وبدأ يتحول تدريجيا لدى البعض إلى نقد مكتوب نقرؤه في صحف ومجلات وكتب متخصصة وغيرها.
من المجلات السينمائية المغربية الورقية القليلة، التي ظهرت واختفت، منذ استقلال المغرب إلى الآن، نذكر العناوين التالية: “الشاشة المغربية” (بضعة أعداد في الستينيات)، “سينما 3” (أربعة أعداد سنة 1970)، “دراسات سينمائية” (13 عددا من 1985 إلى 1991)، “سينما وتلفزيون” (11 عددا من 2002 إلى 2004)، “سيني- مسرح”، “سيني- ماغ”، “أفلام”، “سيني.ما”، “وشمة”… أما المجلتان الوحيدتان المتواجدتان حاليا فهما: “سينفيليا” (بلغت العدد 30 سنة 2023) و”المجلة المغربية للأبحاث السينمائية” (بلغت العدد 14 سنة 2023).
فيما يتعلق بالكتب السينمائية نلاحظ طفرة كمية ونوعية في السنوات الأخيرة، بحيث أصبحت المكتبة المغربية تغتني سنويا بعدد لا بأس به منها، فمن أول كتاب “الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل” لمحمد نور الدين أفاية سنة 1988 إلى آخر الكتب الصادرة سنة 2023 من قبيل: “تمثلات المغربيات على الشاشة” لمولاي إدريس الجعيدي و”أسئلة السينما المعلقة” لسليمان الحقيوي و”السينما المغربية.. من التراكم إلى الحساسية الجمالية” لمحمد اشويكة و “نقد النقد السينمائي” لعزيز الحدادي و”تاريخ السينما في المغرب.. من أواخر القرن التاسع عشر إلى سنة 1912″ لبوشتى المشروح و”وجوه من المغرب السينمائي.. أوائل خلف الكاميرا” (الجزء 5) لأحمد سيجلماسي و”الفيلم الوثائقي المغربي.. البدايات” لرشيد العروصي و”من السينما إلى الأوبرا” لعفيفة الحسينات و”فن فهم السينما بين اللغة والنظرية” لحمادي كيروم و”سينما المملكة ومملكة السينما.. البنيات والأدوار” لإدريس القري…، تجاوز عدد الكتب السينمائية المغربية (الفردية والجماعية) بالعربية والفرنسية ولغات أخرى رقم 220.
فيما يتعلق بالنقد السينمائي بالمغرب يمكن القول أنه مورس من طرف مثقفين مغاربة (أغلبهم من رجال التعليم) منذ عقد الخمسينيات وبدأت دائرته في التوسع في الستينيات وترسخ مع الجامعة الوطنية للأندية السينمائية في السبعينيات والثمانينيات، خصوصا من خلال الصفحات السينمائية المتخصصة في مختلف الجرائد الوطنية وبعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية ومجلات قليلة، وبدأ ينحو منحى أكاديميا بعد ظهور “الجمعية المغربية لنقاد السينما” في منتصف التسعينيات، التي يمكن اعتبارها امتدادا نوعيا بشكل من الأشكال للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب. وبظهور التكنولوجيات الرقمية الجديدة لم يعد هناك مشكل يواجه النقاد فيما يتعلق بنشر نصوصهم، وذلك لأن إمكانيات النشر أصبحت متاحة بحرية أكثر، سواء عبر شبكات التواصل الإجتماعي (الفايسبوك مثلا) أو عبر المنابر الإعلامية الإلكترونية (مجلات وجرائد ومواقع وقنوات سمعية وبصرية ومدونات شخصية) وغيرها.
ومن منظوري الخاص أميز في النقد السينمائي بين معنيين عام وخاص، وأدرج في النقد السينمائي بمعناه العام والشامل كل الممارسات الشفاهية والمكتوبة المرتبطة بالسينما من قبيل: إعداد وتنشيط البرامج الإذاعية والتلفزيونية وغيرها، الإشراف على صفحات أو مجلات أو كتب أو مواقع إلكترونية تعنى بالسينما، تنظيم المهرجانات السينمائية، تسيير الندوات أو جلسات مناقشة الأفلام أو اللقاءات مع المبدعين السينمائيين، إنجاز دراسات وأبحاث جامعية وغيرها حول مواضيع لها علاقة بالسينما وثقافتها، التنظير والتأمل والتفكير انطلاقا من أفلام أو تجارب سينمائية معينة، التوثيق للسينما وروادها…
أما النقد السينمائي بمعناه الخاص فأدرج فيه من يمارس بانتظام مقاربة الأفلام من داخلها وليس من خارجها، وذلك عبر تحليلها من جوانبها المختلفة (شكلا وموضوعا) للوقوف على نقط قوتها ونقط ضعفها والكشف عن خصوصية كتابة مبدعيها وإبداء الرأي فيها من خلال تقييم إجمالي. وهذا النوع من النقد لا تمارسه إلا قلة قليلة من المهووسين بفن السينما، سواء بشكل مهني عبر منبر إعلامي معين مقابل أجر أو بشكل هاوي دون مقابل مادي. هذا مع العلم أن هناك نقاد يجمعون في ممارستهم النقدية بين ما هو خاص وما هو عام. وهذا شيء طبيعي لأن هناك تداخلا بين العام والخاص. ما يميز ناقدا عن الآخر هو منهجيته وعمق تفكيره وتمكنه اللغوي ووضوح رؤيته واطلاعه الواسع على السينما وتاريخها وتجاربها المختلفة هنا وهناك.
أحمد سيجلماسي- مهتم بتاريخ السينما بالمغرب.