” الموسيقى ألغت إحتمال أن تكون الحياة غلطة ” نيتشه
شعور غريب إجتاحني حين فكرت في كتابة بورتريه حول صديق عزيز، جمعتني معه لحظات ومحطات موشومة في ذاكرتنا المشتركة. شعور ممزوج بالخوف والتردد، لأن الأمر يتعلق بقامة فنية كبيرة، أخاف أن لا أنصفه بهذه الكلمات التي لا تسعف دائما البوح بما في الفؤاد، فأكون قد ظلمت نفسي قبل غيري، خاصة وأن المعني هو الفنان الوليد ميمون الذي كان مجرد ذكر إسمه في سنوات الرصاص كاف ليستنفر أصحاب الحال أجهزتهم العلانية والسرية التي تعسفت عليه أكثر من مرة، رغم أنه ليس بزعيم لتنظيم سياسي جذري…تهمته الوحيدة؛ إمتلاكه لسلاح محشو بكلمة وصوت ولحن يجعل السامع يناجي السماء كي تستمر أغانيه في تغذية سغبنا الروحي الذي هو بوابة العقل والفطنة في زمن أريد للعامة المسحوقة أن تساق وهي مجردة من أبسط شروط الآدمية، وتحمد الحامد على ما هي عليه!.
الوليد ميمون لم تستهويه يوما الشهرة ولا الإغراءات المادية، فهو بطبعه ميال إلى العزلة في شقها الإيجابي الذي يقوده نحو اكتشاف أنغام الطبيعة مع التنقيب عن تراث الريف الموسيقي المبعثر هنا وهناك قصد الإستفادة منه دون السقوط في التقليد الممل. وقد سطع نجمه إبان فترة السبعينات والثمانينات التي عرف فيها الريف عموما نهضة موسيقية موازية لباقي الفنون بفضل احتضان الجمعيات الجادة لهذه الطاقات الإبداعية خاصة جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور وجمعية البعث الثقافي بالحسيمة وجمعية إلماس فيما بعد، الشيء الذي يجعلنا نتحسر على ما مضى حين نقارنه بالحاضر وما يحتويه من تفاهات في الأغنية الريفية سواء تعلق الأمر بالأداء أو المضمون أو اللحن..والتي طغت على الرسمي إلى درجة جعلتنا نشك في حقيقة نواياه، فالترويج للأغنية الرديئة كمعيار للأغنية الريفية يحمل أكثر من علامة استفهام؟؟؟.
لذا،من حق الوليد ميمون أن يأخذ بينه وبين الإعلام الرسمي مسافة حتى لا يزكي العبث، فوحده السمك الميت من يساير التيار بلا مقاومة، علما أن الغالبية منا استبشرت خيرا حين تأسست قناة تلفزية تعنى بالهوية والثقافة الأمازيغيتين، لكن مع برامجها الباهتة،شكلا ومضمونا، بدأت تتضح لنا الصورة أكثر فأكثر،ولم تعد سياستها الرامية إلى تسفيه وتمييع الرسالة الفنية النبيلة للأغنية الريفية خفية. للتاريخ أقول: الوليد ميمون كان يحتاط منذ بداية الترويج لمثل هذه المشاريع وطبيعة الجهة الساهرة على إخراجها إلى الوجود. طبعا كنا نعاتبه على موقفه المبني على النوايا فقط! لكن الزمن أثبت أن قراءته للواقع كانت صائبة، أما نحن مجرد ضحايا للموجة التي ساقت الغالبية بشعاراتها المغرية.
لا أريد التطرق إلى الجانب المتعلق بنشأة الوليد ميمون ومحيطه العائلي ومساره التعليمي…فقد قيل فيها ما يكفي، كما لا أدعي أيضا الإلمام الذي يمنحني حق تقييم أغانيه ومدى إنسجامها مع الآلات الموسيقية المستعملة في الأغنية التراثية على سبيل المثال لا الحصر، لكن أزعم أنه بفضل أغانيه وأغاني التوفالي، وعلال شيلح، وبنعمان،وتواتون، وثيذرين، وحسن تيبرين، و…( المعذرة للذي ينامي إلى جيل رواد الأغنية الريفية الملتزمة ولم أذكره) بفضل هؤلاء الذين غنوا أغاني خالدة عن الهوية الامازيغية والتراث والمقاومة الريفية والفلاح والعامل…أدركنا أن الفن كلغة عالمية لا يرقى إلا بالخصوصية المحلية، واكتشفنا من نحن عندما اقتحمنا عالمهم المليء بالعواطف، عالم الأحلام الثورية والانكسارات التاريخية، ومع ذلك فهو عالم لا يخلو من الأمل في الغد الأفضل.
بقلم: خالد قدومي
الأدب المغاربيالأدب المغاربي:
عرّف علماء الاجتماع الأدب بأنّه “كلّ شيء يمت إلى الحضارة بصلة”؛ وهذا التّعريف واسع بشكل كبير، لذلك نراه مرّة ينحصر في النّتاج الفكري الرّفيع؛ ومرة يختصر في الكتابات العلمية والأدبية والتّاريخية والتّشريعية وسواها؛ ما أوجد نوعا من الالتباس، وأوحى بتشابه المقاييس أو غيابها. ومن الواضح أن مفهوم الأدب اليوم قد صار أكثر تحديدا عما كان عليه في الماضي فمن المعاصرين من رآه “أحد مظاهر الفن المتعددة ووسيلة في الخلق أو التّعبير أو المحاكاة هي اللّغة، ومنهم من رأه “تعبيراً عن تجربة شعورية في صورة موحية” ، ومنهم من عرّفه بأنه “تعبير عن الحياة وسيلته اللغة ” ؛ لذلك يمكن القول: إنّ الأدب إنتاج فكري وجداني صيغ بأسلوب فني ، فجاء تعبيراً عن حال إنسانية مقدمة وفق تجربة شعورية خاصة، بل يكمن القول: بأنّ الأدب هو تعبير باللغة عن تجربة إنسانية شعورية بأسلوب فنّي خاص. وبهذا التعريف تظهر عناصر الأدب بعضها بمثابة المادة وهي التّجربة الإنسانية بمكوناتها، وبعضها يتحقق في بناء العمل الأدبي من هذه المادة يسمى المحتوى، والمادة ومحتواها مترابطان ترابطاً عضوياً. ومن هذا المنطلق تكون التجربة الإنسانية الشعورية هي صلب العمل الأدبي الذي يمكن أن نصنفه وفق جغرافية الحدود والمشاعة والخصائص المجتمعية.
أمّا مصطلح مغاربي؛ فهو أيضاً، مصطلح حديث على مستويين: الأوّل لغوي أثير في مجامع اللّغة العربية، حول نسبة الجمع بالياء، والثّاني مكاني متعلّق بجغرافية الأدب هناك وطبيعته. وهذا ما جعل الالتباس قائماً حول استعمال مفردتي “المغرب العربي” أو “الدّول المغاربية”. فالمغرب بفتح الراء ضد المشرق “بلاد واسعة، وقال بعضهم حدها أفريقية إلى آخر جبال السوس وتدخل فيها جزيرة الأندلس”(1) ، وقال بعض المؤرخين:”إنّ المغرب سمّي بجزيرة المغرب ويمتد من ليبيا إلى نواكشوط”(2).
والملاحظ في كلّ ذلك أنّ التّسمية لإستحداث جديد، عملت الدّول الغربية على “نشره في بداية القرن التّاسع عشر، بعدما تقاسمت كلّ من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا دول المغرب”(3)، وفرضت على مستعمراتها نمطاً خاصّا وفق سياسة المستعمر نفسه.
وهذا ما جعل موضوعنا شائكاً في معالجته لمصطلحات إصابتها الحداثة في بنيتها اللغوية ودلالتها المعرفية وأضفت عليها مفاهيم جديدة يختلط فيها الأدبي باللغوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهذا ما جعل الالتباس قائماً على غير مستوى، والتأثير متداخلاً في جوانب جمة، وهو ما سنحاول كشفه من خلال دراسة تأثير العولمة في الأدب المغاربي بين (1991-2001) متخذاً من الرّواية التّونسية أنموذجاً. فالدّراسة في هذا البحث تتناول المنظور الحضاري؛ لأنّه يمنحه رؤية واضحة في إدراك التغيرات. وهذا ما سنحاول كشفه انطلاقاً من جدلية التّأثر والتّأثير بين الأنا والآخر في الإبداع الرّوائي التّونسي بمدونتيه الفرنسية والعربية”(4)، لذلك فإنّ البوتقة الّتي انصهر فيها هؤلاء الأقوام هي مزيج من الأعراق كما هي مزيج من ثنائيات تتوزع بين:
– الصّحراء والسّاحل
– الخضرة والجدب
– التّرحال والاستقرار
– الجراد والجمال والتّيه // المزارع والحظائر.
ولكلّ هذه الخصوصيات أماكن لافتة في الأدب المغاربي، سواء كان مقاوماً للاستعمار، حاملاً جرحه ذاكرة وشهادة عبور لأكثر من زمن قادم كما في رواية رصيف الزهور لمالك حداد وذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي، أو متمسكاً بالأرض الهاربة منه كما في سهل الغرباء لصلاح الدين بوجاه، أو تائهاً في الصحراء الإفريقية يبحث عن النّفط مع شركات الاستثمار الغربية كما هو الحال في معظم كتابات محمد القشاط وإبراهيم الكوني، أو يبحث عن رشفة ماء في رحلة البحث عن النبوة والخفاء والأحجية” لأن أبناء الصحراء كلّهم أبناء نبوة”(1)، بل يطارد كلّ شيء؛ لأنّ الإنسان في منظورهم “لا بدّ أن يطارد حتّى إذا لم يجد ما يطارد اختلق طريدة حتّى لو كانت هذه الطريدة وهماً أو أكذوبة أو خيالاً، مثله مثل كل أنوبي في هذه الصحراء”(2)؛ لأنّه في مختلف المطاردات في حاجة أن يعرف “من أنا”(3)؛ كأن المطاردة في حد ذاتها هي حالة بحث عن الذات والحقيقة التي تختزلهما مفاهيم الأبوة والأمومة.
كما أنّ جلّ الرّوايات الّتي سنتناولها شغفت بموضوعات الوطن والذّاكرة والأولويات الاجتماعية؛ وبين كلّ ذلك هجرة وعودة ورحيل وانتقال في مغرب غرب عنه الكثير من المعاني وبقي البحث وحده تائهاً في معاني الهوية والجذور؛ أعربية أم بربرية، طارحا الأصالة مرّة، وأخرى عازفا عنها محاولا مواكبة المعاصرة ليغرق في مساحة يحكمه نصّ على لون المغرب، تتجاذبه غير قومية وتميّزه غير ثقافة.
الدكتور الفاضل الكثيري- تونس-
النّحو الوظيفي في التّفسير الدّلالي للّغة:
يرتبط علم النّحو بالتّفسير ارتباطًا وثيقًا، فعلم النّحو من أهم الأدوات التي يوظفها علم التفسير لفهم القرآن الكريم ولفهم اللغة ولفهم النصوص التاريخية والجغرافية ومختلف المستندات المخطوطة والمنطوقة، ويمكن أن نقف على العلاقة بين علم النّحو والتفسير من خلال: شيوع اللّحن والخوف على النّصّ المقدس.
إنّ وضع نحو وظيفي متكامل للغة العربية، ودرس علاقة اللّغة العربية ومقارنتها- من المنظور نفسه- بلغات أخرى، وصل بعلماء اللّغة المعاصرين إلى تسطيح للمفاهيم والخصوصيات و” تنميط موارب وقف عند التمييز بين فئتين كبريين من اللّغات: اللّغات المؤسسة تداوليًّا واللغات المؤسسة دلاليّا، ويعنى باللّغات المؤسسة تداوليًّا – وإليها تنتمي اللّغة العربية- اللّغات التي تُغلِّب المستوى التداولي على المستويين: الدّلالي والصّرفي-التركيبي” (ديك، سيمون: نظرية النّحو الوظيفي، مجلة المعرفة، ص: 12). وبالنسبة إلى الدراسة التطورية للغة العربية أثبت أحمد المتوكل “أن اللّغة العربية تنـزع إلى الانتقال عن طريق دوارجها من الفئة الأولى – فئة اللّغات المغلِّبة للتداول على الدلالة -إلى فئة اللغات المغلِّبة للدلالة، وأوضح أنّ اللّهجات العربية الدوارج الآن لم تعد تحرّر الرتبة للدلالة على الوظائف التداولية؛ لأنّها فقدت الإعراب” (المتوكل، أحمد: النّحو الوظيفي، ص:56)، وقد صارت “الرتبة هي الدالة على الوظائف التركيبية”. (ديك، سيمون: نظرية النّحو الوظيفي، مجلة المعرفة، ص:13) وهذا ما “نجده في ما قدمه سيبويه في وقت مبكر من الدراسات اللّغوية.
والنّحو الوظيفي في اعتماده على التفسير الدلالي يخرج من إطار الإعراب إلى الدلالة بحجة فك الاشكالية الواقعة في النّحو التّقليدي. كما ارتكزت “الوظيفة أيضًا على الأداء الصّوتي؛ لذلك أصبح علم الصوت اللّغوي من جملة مواضيع النحو الوظيفي، ويدرس الأصوات من حيث وظيفتها؛ أي أنّه يدرس الفونيمات وتوزيعاتها وبدائلها الصّوتية”
(Mayr.Ernst (2005) Journal of the History of Biology 38 (3):609-614) ويسمَّى علم الصوتيات.
وقد تناول العلماء الصوت ضمن دراسة اللّغة، وكان ما قدموه من رؤى أقربَ إلى المنهج العلميّ؛ لأن أساس هذا الدَّرس بُني على القراءات القرآنية، وقد دفعت قراءة القرآن علماء العربية القدماء لتأمُّل أصوات اللّغة وملاحظتها ملاحظة ذاتية. وقد نتج عن ذلك في وقت مبكِّر جدًا دراسة للأصوات العربية بشكل مفصل، لا تبتعد كثيرًا عمَّا توصَّل إليه علماء الأصوات في الغرب، كما أفردوا له أبوابًا بحثية وهو ما نراه عند سيبويه نفسه في مصنفه الكتاب.
ولعلّ هذا الجهد العلمي الكبير، بدأ بمحاولة أبي الأسود الدؤلي ضبط القرآن بالنُّقط عن طريق ملاحظة حركة الشفتين، وكان يقول لمن يكتب له: “إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف، فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه، وإن ضممت فمي، فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت، فاجعل النُّقطة من تحت الحرف”. (الأفغاني، سعيد: من تاريخ النّحو، ص:33).
ومع مجيء الخليل بن أحمد الفراهيدي واهتمامه بهذا الجانب، فقد قدم أوَّل تصنيف للأصوات حسب موضع النُّطق، أو حسب الأحياز والمخارج، كما قال، وقد أدَّى به ذلك التصنيف إلى تقسيم الأصوات، إلى ما يُعرف الآن بالصّوامت، والصّوائت.
وهنا نتوقف مع تلميذه سيبويه الذي قدّم دراسة للأصوات أوفى وأكثر دقَّة، حيث جاء تصنيفه لها حسب المخارج، وحسب ما يُعرف الآن بوضع الأوتار الصّوتية، وقد سمّاه سيبويه بالجهر والهمس، ثمّ بحسب طريقة النطق، فصنّفها بين الشديدة والرِّخوة؛ ويمكن القول: إنّ دراسة الخليل وسيبويه للأصوات، قامت على مبدأ علمي صحيح، حيث درساها دراسة وصفيَّة واقعية قائمة على الملاحظة الذاتية، وبعيدة عن الافتراض والتّأويل.
وتواصلت الإضافات في هذا الجانب حتّى تبلور هذا العلم مع ابن جنّي؛ وهو الذي أدرك طبيعة اللغة ووظيفتها، عندما قال: “اللغة أصوات يُعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم” (ابن جني: الخصائص، ج:1، ص:33). وقد عُني ابن جنّي بدرس القراءات القرآنية في “المحتسب”، وخصَّص كتابًا كاملًا لدراسة الأصوات، هو كتاب سرّ صناعة الإعراب. وفي هذه الدراسة كان أوَّل من عرض لجهاز النُّطق فشبَّهه بالنَّاي، وبوتر العود؛ ليقدّم صورة عن العملية الطبيعية لإنتاج الكلام، وليوضّح تقسيم الأصوات حسب المخارج وتقسيمها إلى أصوات صامتة، وأخرى متحركة” (تمًّام، حسان: مناهج البحث في اللغة، ص:36).
وبما أنّ الأوائل قد اشتغلوا على الصّوت الوظيفي في تفسير اللّغة ومعرفة الدلالة، فإنّ أصحاب اتجاه النّحو الوظيفي قد استغلوا هذا الجانب ليستثمروا ما توصل إليه تراثنا اللّغوي، كما أنهم استفادوا من اللسانيات الحديثة وما أنتجته من علوم جديدة في اللغة وفتح آفاق علمية ومناهج بحث متنوعة شكلت في مجملها علومًا استقلت عن علم اللغة لتتفرع وتصبح ذات كيان خاص، له طرقه وحدوده وماهيته وتعاريفه.
والحقيقة أنّ الدّرس النّحوي هو في الأساس درس لغوي يخدم علوم اللّغة بكل فروعها، ولا يقتصر على نص اللّغة فحسب، بل يتعدى إلى مستوى القبول الذّهني في إطار منطق اللّغة ومنطلقًاتها الدّلالية. وبه يتحدد المنهج التقعيدي الذي يرتكز في الأساس على معايير قواعدية بحتة تؤطر هذا العلم وتقدمه بشكل منهجي يتجاوز اعتباطية اللّغة كظاهرة إنسانية، ويحدّد الأطر العامة الّتي ترتكز عليها في محورها الخاص.
الفاضل الكثيري – تونس
الجرس الموسيقي والنّحو الوظيفي في التّفسير الدّلالي للّغة:
يرتبط علم النّحو بالتّفسير ارتباطًا وثيقًا، فعلم النّحو من أهم الأدوات التي يوظفها علم التفسير لفهم القرآن الكريم ولفهم اللغة ولفهم النصوص التاريخية والجغرافية ومختلف المستندات المخطوطة والمنطوقة، ويمكن أن نقف على العلاقة بين علم النّحو والتفسير من خلال: شيوع اللّحن والخوف على النّصّ المقدس.
إنّ وضع نحو وظيفي متكامل للغة العربية، ودرس علاقة اللّغة العربية ومقارنتها- من المنظور نفسه- بلغات أخرى، وصل بعلماء اللّغة المعاصرين إلى تسطيح للمفاهيم والخصوصيات و” تنميط موارب وقف عند التمييز بين فئتين كبريين من اللّغات: اللّغات المؤسسة تداوليًّا واللغات المؤسسة دلاليّا، ويعنى باللّغات المؤسسة تداوليًّا – وإليها تنتمي اللّغة العربية- اللّغات التي تُغلِّب المستوى التداولي على المستويين: الدّلالي والصّرفي-التركيبي” (ديك، سيمون: نظرية النّحو الوظيفي، مجلة المعرفة، ص: 12). وبالنسبة إلى الدراسة التطورية للغة العربية أثبت أحمد المتوكل “أن اللّغة العربية تنـزع إلى الانتقال عن طريق دوارجها من الفئة الأولى – فئة اللّغات المغلِّبة للتداول على الدلالة -إلى فئة اللغات المغلِّبة للدلالة، وأوضح أنّ اللّهجات العربية الدوارج الآن لم تعد تحرّر الرتبة للدلالة على الوظائف التداولية؛ لأنّها فقدت الإعراب” (المتوكل، أحمد: النّحو الوظيفي، ص:56)، وقد صارت “الرتبة هي الدالة على الوظائف التركيبية”. (ديك، سيمون: نظرية النّحو الوظيفي، مجلة المعرفة، ص:13) وهذا ما “نجده في ما قدمه سيبويه في وقت مبكر من الدراسات اللّغوية.
والنّحو الوظيفي في اعتماده على التفسير الدلالي يخرج من إطار الإعراب إلى الدلالة بحجة فك الاشكالية الواقعة في النّحو التّقليدي. كما ارتكزت “الوظيفة أيضًا على الأداء الصّوتي؛ لذلك أصبح علم الصوت اللّغوي من جملة مواضيع النحو الوظيفي، ويدرس الأصوات من حيث وظيفتها؛ أي أنّه يدرس الفونيمات وتوزيعاتها وبدائلها الصّوتية”
(Mayr.Ernst (2005) Journal of the History of Biology 38 (3):609-614) ويسمَّى علم الصوتيات.
وقد تناول العلماء الصوت ضمن دراسة اللّغة، وكان ما قدموه من رؤى أقربَ إلى المنهج العلميّ؛ لأن أساس هذا الدَّرس بُني على القراءات القرآنية، وقد دفعت قراءة القرآن علماء العربية القدماء لتأمُّل أصوات اللّغة وملاحظتها ملاحظة ذاتية. وقد نتج عن ذلك في وقت مبكِّر جدًا دراسة للأصوات العربية بشكل مفصل، لا تبتعد كثيرًا عمَّا توصَّل إليه علماء الأصوات في الغرب، كما أفردوا له أبوابًا بحثية وهو ما نراه عند سيبويه نفسه في مصنفه الكتاب.
ولعلّ هذا الجهد العلمي الكبير، بدأ بمحاولة أبي الأسود الدؤلي ضبط القرآن بالنُّقط عن طريق ملاحظة حركة الشفتين، وكان يقول لمن يكتب له: “إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف، فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه، وإن ضممت فمي، فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت، فاجعل النُّقطة من تحت الحرف”. (الأفغاني، سعيد: من تاريخ النّحو، ص:33).
ومع مجيء الخليل بن أحمد الفراهيدي واهتمامه بهذا الجانب، فقد قدم أوَّل تصنيف للأصوات حسب موضع النُّطق، أو حسب الأحياز والمخارج، كما قال، وقد أدَّى به ذلك التصنيف إلى تقسيم الأصوات، إلى ما يُعرف الآن بالصّوامت، والصّوائت.
وهنا نتوقف مع تلميذه سيبويه الذي قدّم دراسة للأصوات أوفى وأكثر دقَّة، حيث جاء تصنيفه لها حسب المخارج، وحسب ما يُعرف الآن بوضع الأوتار الصّوتية، وقد سمّاه سيبويه بالجهر والهمس، ثمّ بحسب طريقة النطق، فصنّفها بين الشديدة والرِّخوة؛ ويمكن القول: إنّ دراسة الخليل وسيبويه للأصوات، قامت على مبدأ علمي صحيح، حيث درساها دراسة وصفيَّة واقعية قائمة على الملاحظة الذاتية، وبعيدة عن الافتراض والتّأويل.
وتواصلت الإضافات في هذا الجانب حتّى تبلور هذا العلم مع ابن جنّي؛ وهو الذي أدرك طبيعة اللغة ووظيفتها، عندما قال: “اللغة أصوات يُعبِّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم” (ابن جني: الخصائص، ج:1، ص:33). وقد عُني ابن جنّي بدرس القراءات القرآنية في “المحتسب”، وخصَّص كتابًا كاملًا لدراسة الأصوات، هو كتاب سرّ صناعة الإعراب. وفي هذه الدراسة كان أوَّل من عرض لجهاز النُّطق فشبَّهه بالنَّاي، وبوتر العود؛ ليقدّم صورة عن العملية الطبيعية لإنتاج الكلام، وليوضّح تقسيم الأصوات حسب المخارج وتقسيمها إلى أصوات صامتة، وأخرى متحركة” (تمًّام، حسان: مناهج البحث في اللغة، ص:36).
وبما أنّ الأوائل قد اشتغلوا على الصّوت الوظيفي في تفسير اللّغة ومعرفة الدلالة، فإنّ أصحاب اتجاه النّحو الوظيفي قد استغلوا هذا الجانب ليستثمروا ما توصل إليه تراثنا اللّغوي، كما أنهم استفادوا من اللسانيات الحديثة وما أنتجته من علوم جديدة في اللغة وفتح آفاق علمية ومناهج بحث متنوعة شكلت في مجملها علومًا استقلت عن علم اللغة لتتفرع وتصبح ذات كيان خاص، له طرقه وحدوده وماهيته وتعاريفه.
والحقيقة أنّ الدّرس النّحوي هو في الأساس درس لغوي يخدم علوم اللّغة بكل فروعها، ولا يقتصر على نص اللّغة فحسب، بل يتعدى إلى مستوى القبول الذّهني في إطار منطق اللّغة ومنطلقًاتها الدّلالية. وبه يتحدد المنهج التقعيدي الذي يرتكز في الأساس على معايير قواعدية بحتة تؤطر هذا العلم وتقدمه بشكل منهجي يتجاوز اعتباطية اللّغة كظاهرة إنسانية، ويحدّد الأطر العامة الّتي ترتكز عليها في محورها الخاص.
الفاضل الكثيري – تونس