هبطَ مع صديقهِ زاويةً داكنةً، اكتظت فيها أشياءٌ من عبقِ الأمكنةِ الدَّافئةِ، تهلَّلَ الرفاقُ عندَ مجيئِهما، اختارا أن يجلسَا مستندينِ إلى جدارٍ يواجهانِ من يدخلُ من بابِ الزاويةِ، لاحظَا توافدَ السُّمارِ، ومغني الزاويةِ كانَ يصدحُ (غنِّ لي شوي، غنِّ)، توزَّعت الطَّاولاتُ بلا نظامٍ واختلطتِ الكراسي، والتفَّ حولهما من وفدوا للتَّو.
دنا منهُما شخصٌ مهيبٌ كانَ يتطوَّحُ، أسرَّ لهما أنَّه رجلٌ من المخابراتِ، ارتبكا، ونظرا إلى بعضِهما بتوجسٍ، كانَ يجولُ بين الحاضرينَ يدنُو من هذا ويهمسُ في أذنِ ذاكَ، أشارَ لهما أحدُ الحاضرينَ أنَّه رجلٌ يتوهَّمُ، لكنَّ اللَّيلَ امتدَّ وهو على هذهِ الحالِ، ثمَّ في زاويةٍ أخرى جلسَ رجلٌ تسعيني ٌّبالكادِ يتحرَّكُ، لكن تطفرُ من عينيهِ حيويةُ الشَّبابِ، فكانَ يردّدُ أغنياتٍ دونَ أخْرى، وتطوَّعَ أحدُ الحاضرينَ وهمسَ:
– هذا البائسُ، رجلٌ ثريٌّ جداً رغمَ حالتهِ الرثةِ.
ومعَ امتدادِ اللَّيلِ ارتفعَ صوتُ المغنى مولاي رشيد، وراحَ يرفعُ صوتهُ ويستنهضُ الحاضرينَ للمشاركةِ، اقتربت منه امرأةٌ ستينيةٌ ما زالت تنعمُ ببقايا جمالٍ، استأذنتهُ أن تغني، جاءَ صوتها كمن استيقظَ من نومهِ للتَّو، خشناً ومتهدجاً، لكنَّها أكملت وصفقَ لها السُّمارُ، اقتربَ أحدُ الحضورِ منهما وسألَ: أتعرفان قصتَها؟ هزَّا رأسيهِما بالنَّفِي، فذكرَ أنها مطربةٌ تائبةٌ، لكنَّها بعد أن عادت من حجَّتها قطعَ عليها الخبثاءُ توبتَها فعادت تطاردُ مجدَها الغابرَ.
وغنَّى بعدَها من كانَ صامتاً، غنَّى (من أي دمعة حزن لا لا)، حتَّى إذا أعطَى صوتهُ المساحةَ الكافيةَ ضجَّ المكانُ بالصَّخبِ، وقبلهُ رفعَ مطربُ المجموعةِ صوتهُ مغنياً حتَّى لم يسعِ الحاضرينَ بقاؤُهم في مقاعدِهم نشوةً تلو نشوةٍ.
في نشوة اللحظة أسر لصديقه أليست الليلة ليلة الخامس من حزيران، نكسة العرب؟! وتذكر مسرحية سعد الله ونوس، أهذه الليلة حفلة سمر متأخرة من أجل خمسة حزيران؟!!
لكن لحظةَ هَمَّ بالمغادرةِ هو وصديقه هبطتْ إلى حلبةِ الغناءِ حسناءُ برداءٍ أسودَ، لها قوامٌ جميلٌ، أمسكتِ الميكرفونَ وأطلقت حنجرَتها، لحظتَها تهامسَا أنَّها تشبهُ أمَّ كلثوم، فالصَّوتُ والهيئةُ كانت كلثوميَّةَ الطَّابعِ، أبهرَ صوتهُا وطريقةُ تمثيلِها لشخصيةِ أمِ كلثوم كلَّ الحضورِ الَّذينَ عادُوا إلى تفاصيلِ الزَّمنِ القديم.
– ومن الشَّوقِ رسولٌ بيننا.. ونديمٌ قدَّمَ الكأسَ لنا
تصاعدَ الإعجابُ واختلطتِ الأصواتُ، ثمَّ انثنت للكوبليه الأثير:
– هل رأى الحبُّ سكارى
وفي خاطرِ أحدِهما ماذا لو قالت:
– هل رأى الحبُّ ملاذاً!!
كانتِ اللَّحظةُ إيذاناً باشتعالِ المكانِ حنجرةً واحدةً، ولم يعُد أحدٌ يميز صوتَ المغنيةِ عن غيرِها، فقد استبدَّ الحبورُ بالجميعِ، وحتَّى المغني العازف مولاي رشيد غرقَ هو وآلتُه في كنهِ اللَّحظةِ الَّتي لا تنتمِي إلى العالمِ الَّذي قدمَ منهُ الصَّديقانِ!!
د. حسن النعمي / جدة – المملكة العربية السعودية