أتاحت لي المصادفة أن أعيش جزءا من حياتي في زمن نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأن ألتقي مرارا بكل منهما، في موضع كاتب شاب يتطلع إلى الأساتذة وليس موضع الصديق، حينذاك، في الستينيات، أدهشتني” ثلاثية ” محفوظ، ولم أكن قد قرأت قبلها في الأدب العربي صرحا أدبيا بهذا العلو، وحدثت أخي جمال الغيطاني فقال لي : “نعم. هو روائي عظيم. ولابد أن نعرض عليه قصصنا القصيرة”! وكان جمال نشطا في بناء العلاقات الإجتماعية، واقترح علي قائلا: ” إنه يمشي كل يوم من منزله إلى مبنى ماسبيرو. في الثامنة صباحا يكون على كوبري الجامعة. نذهب إليه ونعطيه القصص”! قلت له : ” ياجمال .. هذا أشبه بالكمين! لماذا لا ندع الرجل في حاله؟”. لكنه أصر. وبالفعل توجهنا ونحن بعد في السادسة أو السابعة عشرة من عمرينا إلى الأستاذ العظيم، فاستوقفناه، وناولناه قصتين، وفي صباح اليوم التالي لبدنا له على الكوبري، فعاملنا بلطف ومحبة وأبدى بعض الملاحظات الطفيفة فاعتبرنا منذ ذلك الحين أننا كاتبان كبيران حتى أننا حظينا بتقدير نجيب محفوظ! ومضينا نختال بين مقاهي المثقفين بإطراء الكاتب العظيم لأعمالنا الساذجة!
في ما بعد تكلمت مع يحيي الطاهر عبد الله فقال لي إن الأستاذ نجيب يلتقي كل يوم جمعة بالناس في كازينو” صفية حلمي” بميدان الأوبرا. ظللت أتردد على ذلك اللقاء بانتظام نحو عامين أنصت ولا أتكلم، مستغرقا في ملاحظة شخصية نجيب محفوظ. كان دمثا، متواضعا بصدق الإنسان الذي يدرك أن دور الفرد في التاريخ محدود أيا كانت مواهبه. وكان معظم الحاضرين من الشباب يتطلعون إليه بلهفة إلى التوجيه، لكن الأستاذ نجيب لم يكن يشير علينا بشيء، مكتفيا بالإنصات إلينا، فإذا تحدث تنهمر علينا أسئلته التي ربما تعوض معرفته بالواقع والبشر التي تحد منها عزلته لعكوفه على الأدب. وربما كان يسألنا لأن الحياة عنده كلها كانت” مادة ” للأدب، ونحن جزء من تلك المادة، أما يوسف إدريس فقد كان الأدب عنده مادة للحياة، إدريس كان يرى أن الأدب جزء من الحياة، أما محفوظ فقد رأى أن الحياة جزء من الأدب. وهما موقفان مختلفان تماما. وقد التقيت بإدريس العديد من المرات، أذكر منها مرة في مبنى دار الأدباء، وكنا حوله حلقة شباب، أنا ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد روميش وآخرون. واقترح علينا بعينيه المتوهجتين أن يبدأ هو بارتجال مطلع قصة قصيرة، ثم أقوم أنا أحمد بمواصلة ما بدأه، ثم يتناول منى روميش الخيط ويستكمل العمل. وبذلك كان إدريس يخترع أول ورشة أدبية في وقت لم يكن أحد قد سمع فيه بكلمة ورشة ولا كان ذلك المفهوم مطروحا أصلا. كما قام إدريس بدأب بتقديم كل أبناء جيل الستينيات، وعمل على نشر أعمالهم في مجلة الكاتب التي ترأس تحريرها أحمد عباس صالح، وبينما تجنب محفوظ الإشتباك بأي قضايا اجتماعية – إلا إن كان ذلك رواية – فقد خاض إدريس المعارك الفكرية والسياسية بلا توقف ومن أشهرها معركته ضد الشيخ شعراوي، ووصفه إياه بأنه” راسبوتين” العصر الذي يخدع البسطاء بقدرته على التمثيل. وقد ترك الأديبان الكبيران إرثا أدبيا عظيما، كل بطريقته. سافرت بعد ذلك إلى الخارج وعدت بعد زمن طويل، فذهبت للقاء نجيب محفوظ لأقدم له كتابي: ” نجيب محفوظ في مرايا الإستشراق السوفيتي”، فوجدت الكاتب العظيم على طريقته القديمة يسأل ويستفسر ولا يصرح بشيء، ثم التقيت بيوسف إدريس، وقد ترك الزمن بصمته على ملامحه، ورأيت من جديد وهج الروح النارية الذي لازم نظرته إلى النهاية.
*****
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري