ما الذي لم أتخيله ساعتها، يا سيدة ليّا،وأنت تعدينني بمفاجأة مبهرة بحماس حرر كل طاقات المخيلة !
أسأل نفسي أمام ملامحك الغامضة التي تحمي سرا دفينا ، تصرين على عدم الكشف عنه قبل الوصول إلى عين المكان :
أهو تمثال شيد لأب الجورجيين في وسط المدينة ليناجي أم الجورجيين على قمة سولولاكي ،وهي تحتفي بالأصدقاء وتصد الأعداء ؟
أم هو مرسم في الهواء الطلق يهدي للناظر روائع فن عابر للفنون ؟
أم ..؟
أم …؟
-Patience ma chère ! patience !on va bientôt y arriver… !
كنت أيتها المترجمة المتمرسة الوحيدة التي داومت على مخاطبتي بالفرنسية طيلة مقامي بتفليس الدافئة، بالرغم من معرفتك بالعربية ومخالطتك لأهلها.
مع باقي صديقاتي المستعربات، كنت أحقق أحد أهم عناصرهويتي! في البداية ، كنت أتصور نفسي وإياهن بطلات مسلسل أو فيلم عربي تاريخي ! بعد حين بدا لي الأمر عاديا…، وإن لم يصبح قط طبيعيا بالنسبة إلي ! فالشعور الذي غمرني في القاهرة وأنا أتحدث لأول مرة بعربية الكتابة مع صديقتي داريجان ،لم يتبدد بصفة نهائية في تفليس …!
انتزعني صوت السيدة ليّا من تخميناتي وتأملاتي، وهو يطلب مني الاستعداد للنزول من الحافلة في المحطة الموالية.
كنت أسير مبتهجة إلى جانبها ،في شارع روستافيلي ،وكلي لهفة لاكتشاف طبيعة المفاجأة!
-Notre joyau est à quelques minutes seulement !
ابتسمت وأنا أستمع إليها تطمئنني بقرب الوصول. تذكرت ملامح زميلنا المصري أسامة وهو يسر لي:” اسمعي النصيحة رجاء، ولا تستهيني بها ! أعيش في هذا البلد الجميل منذ سنوات الآن! وأعرف حق المعرفة حب زملائنا الطيبين للمشي ! إذا أخبروك أنك على وشك الوصول ،فاستعدي لقطع الكيلومترات تلو الكيلومترات …! “.
-Regardez- moi cette merveille!
صاحت السيدة ليّا وهي تتوقف فجأة، فيما كان نظرها مركزا في خشوع على الناحية الثانية من الشارع الذي يحمل اسم شاعر ومفكر جورجيا القروسطي !
صوبت نظري إلى حيث أشارت بإصبعها. لا شيء يلفت الانتباه مما لم أره من قبل ! فقد كدت أحفظ تضاريس هذا الشارع الرئيس لكثرة ما تنزهت فيه ! -أين ؟سألتها مستفسرة والفضول يملؤني.
-هناك …أمامك…في وسط نهاية الشارع!
أضافت وهي تحثني على المشي في اتجاه النقطة التي أشارت إليها:” بضع دقائق فقط و ستحظين برؤية الجوهرة عن قرب”!
وصلنا أخيرا!فاستقبلتني بدهشة تفوق دهشتي “شجرة زيتون” صغيرة محاطة بسياج إسمنتي منقوش.
– شجرة زيتون،إذا، هي مفاجأتك المبهرة يا سيدة ليّا ! حدثت نفسي،وأنا أجاهد لأكتم ضحكة هستيرية كادت تتملكني.
-سغامو مشفيدوبيسا1! حيتني الشجرة ،وهي منهمكة في تثبيت جذورها في تربة تبليسي المضيفة !
– سغامو مشفيدوبيسا!أجبت مباركة جهودها ومعتذرة عن عدم انتباهي إليها من قبل .
ظللت مسمرة في مكاني لحظة أتأمل الشجرة في صمت خائب الأمل، فيما كانت السيدة ليّا تحوم حول السياج وهي تحضنها بعينيها مرددة على مسمعي :
-مفاجأة غير متوقعة ! أليس كذلك ؟.
“ما كان بالإمكان أبدا أن تقطعي كل هذه الأميال إلى تبليسي وتغادريها ،دون أن تملئي عينيك بهذا الجمال المبارك ! “.
-طبعا ..طبعا ..أكيد ! عزيزتي السيدة ليّا!
أجبتها أخيرا وأنا أسير نحوها مبتسمة، فيما كانت روحي تحلق في حنين مفاجئ حول بساتين أشجار الزيتون الممتدة على طول أطلسي.
-“ما كان لي أن أعبر جبال الأطلس إلى جبال القوقاز، دون أن أجدد الصلة بجذوري ! “. كنت أقف بمحاذاة السيدة ليّا نتأمل شجرة الزيتون معا، حين لفت انتباهي تكرار صفة القداسة في حديثها عن الشجرة.
استفسرتها عن مصدر الصفة ،فحكت في خشوع حكاية شجرة زيتون”رعت أرض فلسطين المقدسة نشأتها الأولى2، قبل أن يتلقاها هدية من إيطاليا قداسة البطريرك الجورجي إيليا الثاني، ويبارك بصلاته عملية زرعها في شارع روستافيلي عام 2008! “.
-عام 2008 ؟! سألتها وأنا أنتبه إلى التاريخ.
-أجل، بالضبط ، هوالعام2008 بعينه!
ما أن أتمت السيدة ليّا جملتها، حتى استحالت شجرة الزيتون أمام ناظري حمامة سلام رفرفت بجناحيها برهة قبل أن تحلق عاليا لتنشر السلم و”الأمان” في ربوع جورجيا…! …………………………
هامش :
1-مساء الخير باللغة الجورجية.
2-في سبيل إنعاش الذاكرة،استقينا هذه المعلومات من المستعربتين الصديقتين داريجان غارداوادزي ونينو سورمافا (جامعة إيفان جفاخشفيلي الحكومية بتبليسي).
فاتحة الطايب