مولده ([1])
هو الحسين بن منصور الحلاّج، الزاهد في الدنيا والمتصوّف الشَّهير، من أهل بلدة “بيضاء” الواقعة في بلاد فارس. كان جدّه من المجوس، واسمه محمى، وهو من أهل بيضاء فارس. وُلِد صاحب الترجمة سنة 244 للهجرة / 858م، في كورة البيضاء، والتي تُعرف بأنّها موطن كبار العلماء والنحويّين أمثال سيبويه. لقّب بالحلاَّج نسبة إلى صنعة النسيج، وقيل أيضًا إنّ والده كان يحلج القطن، ولذلك سُمّي حلاَّجًا ([2]).
يخبرنا الإمام البغداديّ، في كتابه تاريخ بغداد “أنّه لمّا دخل واسط تقدّم إلى الحلاّج، وبعثه في شغل له، فقال له الحلاّج: أنا مشغول بصنعتي! فقال: اذهب أنت في شغلي حتّى أعينك في شغلك! فذهب الحلاّج، فلمّا رجع، وجد كلّ القطن في حانوته محلوجًا فسُمّي بذلك الحلاّج“. وفي موضع آخَر قيل إنّه سُمّي بذلك لأنّه كان يكشف أسرار المريدين ويخبر عنها، فسُمّي بذلك حلاّج الأسرار. فغلب عليه اسم الحلاّج. وقيل إنّ أباه كان حلاّجًا فنُسب إليه ([3]).
نشأ في مدينة واسط في العراق، حيث وصلها وهو لم يبلغ الثامنة من عمره، وفيها حفظ القرآن. وفي السادسة عشرة من عمره، بدأ حياته الصوفيَّة، بأن تتلمذ على الشيخ سهل بن عبد الله التستري. وعنه أخذ طرق المجاهدة والحمل على النَفْس وعِلم التصوّف.
رحل بعد ذلك إلى مدينة البصرة، ليتلقّى فيها خرقة الصوفيَّة عن يد عمرو المكّي. وفي سنة 264 للهجرة، تزوّج بأُمّ الحسين بنت أبـي يعقوب الأقطع البصريّ الصوفيّ، فأنجبت له ثلاثة بنين وبنتًا واحدة ([4]). وقد عاش حياة الزهد مع زوجته وأولاده. وممّا جاء في أخباره: “كان الحلاّج ينوي في أوّل رمضان، ويُفطر يوم العيد. وكان يختم القرآن كلّ ليلة في ركعتين، وكلّ يوم في مئتي ركعة. وكان يلبس السواد يوم العيد، ويقول: هذا لباس مَن يرد عليه عمله” ([5]).
أسفاره
تزوّج الحلاّج من أُمّ الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع، كما ذكرنا. وبعد زواجه منها قامت خصومة بين شيخه عمرو المكّيّ وبين حميه الأقطع. صبر عليها الحلاّج مدّة، مُتّبعًا نصيحة أبي القاسم الجنيد. ولكنّ الخصومة امتدّت إلى الحلاّج نَفْسه، فانقطعت الصلة بينه وبين شيخه عمرو المكّيّ. عندها قرّر الرحيل إلى بغداد، حيث انضمّ إلى جماعة أبي القاسم الجنيد، وأخذ يدرس عليه ويلازمه حياته. لكنْ مع مرور الزمن قام خلاف بين الجنيد وبين الحلاّج في وجهات النظر الحقّانيَّة والأفكار العقلانيَّة، فافترقا كلّ في طريق.
وتابع الحلاّج طريقه الصوفيّ، حيث انضمّ إلى مدرسة القشيريّ، التي التقى فيها صديقه الشبلي. كما بنى علاقات مع مدارس صوفيَّة أُخرى، إلاّ أنّها لم تعمّر طويلاً، لخلاف في وجهات النظر بينه وبين أعلام تلك المدارس. فانفصل عنهم، وكوّن لنَفْسه مدرسة جديدة، بأفكار جديدة وأهداف دِينيَّة خاصّة، وعقلانيَّة متميّزة عن المدارس الأُخرى ([6]).
قام الحلاّج بثلاث زيارات إلى مكّة المكرّمة. كانت أوّلها سنة 282 للهجرة / 896م، وكانت الثانية سنة 291 للهجرة / 905م. ثمّ رحل إلى بلاد الهند، وبعدئذٍ إلى تركستان وخراسان. أمّا الزيارة الثالثة والأخيرة إلى مكّة المكرّمة، فكانت سنة 294 للهجرة / 908م، حيث أقام عامين رحل بعدهما إلى بغداد، ليستقرّ فيها ([7]). وعند عودته من رحلته الأخيرة من مكّة المكرّمة إلى بغداد، راح ينادي برغبته في الموت كافراً بشريعة الإسلام، “اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي، فاقتلوني” ([8]).
فكره
اختلف الباحثون في تحديد اتجاهات الحلاّج المذهبيَّة. فماسينيون يقول إنّه جدليّ وصوفيّ في آنٍ واحد، وإنّه حاول التوفيق بين الفلسفة اليونانيَّة والعقيدة الإسلاميَّة، معتمداً على أساس من التجربة الصوفيَّة. أمّا مولر وديربيلوت فيزعمان أنّ الحلاّج كان مسيحيّاً بالسرّ.
ولكنّ واقع الحلاّج أنّه غلب عليه حال الفناء، التي يصفها بقوله:
“إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده، فتح عليه باب الذِكر، ثمّ فتح عليه باب القرب، ثمّ أجلسه على كرسيّ التوحيد، ثمّ رفع عنه الحجب، فيريه الفردانيَّة بالمشاهدة، ثمّ أدخله دار الفردانيَّة، ثمّ كشف عنه الكبرياء والجَمال، فإذا وقع بصره على الجَمال بقي بلا هو، فحينئذٍ صار العبد فانياً وبالحقّ باقياً، فوقع في حفظه سبحانه، وبرئ من دعاوى نَفْسه” ([9]).
تأثّر الحلاّج بثقافات أجنبيَّة من خارج الفكر الإسلاميّ. فمن خلال مطالعتنا لفكره نستنتج أنّه تأثّر بالفلسفة اليونانيَّة، والفارسيَّة، والهنديَّة، والديانة اليهوديَّة، والعقيدة المسيحيَّة.
يتميّز الفناء عند الحلاّج، بحضور كبير في فكره. والفناء عنده، فناء الإرادة الإنسانيَّة في الإرادة الإلهيَّة. وبذلك يصبح الفعل الصادر عن الإنسان صادراً عن الله.
استعار الحلاّج كثيرًا من التعابير والمصطلحات، من الديانة المسيحيَّة. فنراه مثلاً يستعمل في كلامه مصطلحي “اللاهوت” و”الناسوت”، ليعبّر بهما عن العنصرين الإلهيّ والإنسانيّ المتّحدين معاً. وهذا ينطوي في جوهره على الحلول والاتّحاد. هذان المصطلحان هما من المفهوم الفكريّ اللاهوتيّ المسيحيّ، فهما يدلاّن على طبيعتي المسيح اللاهوتيَّة والإنسانيَّة معاً. كذلك استعماله لتعبيره “أنا الحقّ”، فهذا التعبير من كلام السيّد المسيح عندما قال: “أنا الطريق والحقّ والحياة”. هذا بالإضافة إلى تعابير أُخرى.
أمّـا اليهوديَّة فقد تأثّر منها بفكـرة خلق الله لآدم على صورته ومثاله، وآدم هو جزء من الكون (العالَم) مخلوق، والله هو مدبّر العالَم وبيده كـلّ شيء، يجازي الإنسان على عمله خيرًا وشرًّا.
ومن الفلسفة الهنديَّة، أخذ فكرة الفناء. والفناء عنده، في الذات الإلهيَّة والاتّحاد بها. ويمكن القول إنّ الحلاّج لم يأخذ فكرة الفناء فقط عن الفلسفة الهنديَّة، بل إنّه موهوب بها:
أأنتَ أم أنا هذا في إلهينِ؟ بيني وبينكَ إنّيٌّ يزاحمني |
حاشاك حاشاك من إثبات اثنينِ فارفع بإنّيّكَ إنّيّي من البينِ ([10]) |
وليس هذا فقط، ولكنّا نرى أنّ الحلاّج أراد التوفيق بين الفلسفة اليونانيَّة، والعقيدة الإسلاميَّة، وأنّه ذهب إلى أبعد من ذلك، بأن حاول التوفيق بين الفلسفات بفروعها المختلفة: يونانيَّة كانت أو هنديَّة أو فارسيَّة… إلخ.
وكذلك بالنسبة إلى الأديان السماويَّة الثلاثة: اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام.
الحلول
تمتدّ جذور نظريَّة الحلول إلى الفلسفات الهنديَّة والبراهميَّة. كما أنّ للغنوصيَّة تأثيراً كبيراً فيها. والحلاّج واحد من كبار مناصريها في الفكر الصوفيّ الإسلاميّ. أمّا المتصوّفة الذين جاؤوا بعده، فقد حاولوا أبعاد كلّ التهم عنه، خاصّة قوله “أنا الحقّ – إنّنا روحان حللنا بدنا”، وأيضاً “قلت: مَن أنت؟ قال: أنت”. إنّ فكر الحلاّج في الحلول، جاء معظمه شعراً. وهناك أيضاً ما جاء نثراً في كتابه الطواسين. و”الأنا” عند الحلاّج ترتبط بـ “اللاأنا” التي تصبح أنت بالاتّحاد والحلول. و”اللاأنا” ترتبط بقوّة “بالأنا”. وبالمفهوم الفلسفيّ، لا وجود لـ (اللاأنا (بدون) أنا)، فالثانية تؤسّس للأُولى وتنصهر معها. أمّا في المفهوم الصوفيّ، فتختفي الثانية في الأُولى، لتظهر بـ (هو) فقط.
يرى الحلاّج أنّ الإنسان في الأصل لا يملك فعله، وهذا ما يسمّيه “الحلول”، وهو حلول الطبيعة الإلهيَّة بالطبيعة الإنسانيَّة، وبتعبير آخَر حلول اللاهوت بالناسوت.
سبحان مَن أظهر ناسوتَهُ ثمّ بدا في خلقه ظاهراً حتّى لقد عاينه خلقُه |
سرّ سنا لاهوته الثاقبِ في صورةِ الآكلِ والشاربِ كلحظة الحاجبِ بالحاجبٍ ([11]) |
كان الحلاّج، أحياناً، يناقض نَفْسه بالأفكار. إليكم مثلاً هذه الأبيات التي يمزج فيها الأمور بالحلول، ثمّ ينفي مزج الطبيعة الإنسانيَّة بالطبيعة الإلهيَّة. ويرى أنّه تعالى تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، ولا يشبههم بوجه من الوجوه ولا يشبهونه ([12]).
وفي موضع آخَر يقول:
جُبلتْ روحُك في روحي، كما فإذا مسّكَ شيءٌ مسّني |
تجبل العنبرُ بالمسكِ الفتقْ فإذا أنتَ أنا، لا نفترقْ ([13]) |
أغلب الظنّ أنّ الحلول عند الحلاّج هو شعور نَفْسيّ يتمّ في حال الفناء في الله تعالى، أي أنّ تعبيره مجرّد استهلاك الناسوت في اللاهوت، أي فناؤه فيه.
والحلول عنده هو الذي يتمّ عن طريق الفناء، ويختلف كلّيّاً عن مذهب وحدة الوجود عند ابن عربيّ. وينحصر هذا الخلاف في أمرين: الأوّل الثنائيَّة بين اللاهوت والناسوت، والثاني محو الصفات العائقة للوصول إلى الله وحلول الصفات الإلهيَّة محلّها.
إنّ فكرة الحلول عند الحلاّج، مهّدت الطريق للمتصوّفة المتأخّرين بالتفلسف في نظريَّة الحقيقة المحمّديَّة، وبمعنى آخَر الإنسان الكامل، وهو يجعل للنبيّ محمّد حقيقتين: الأُولى، هي النُور الأزليّ الذي كان قبل الأكوان. وهي حقيقة قديمة. والثانية، هي الحقيقة الحديثة، التي يعتبر فيها محمّد نبيّاً مُرسلاً، وُجد في زمان ومكان معيّنين.
“سراجٌ من نُور الغيب، بدا وعاد، وجاور السراج وساد، قمر تجلّى من بين الأقمار، برجه من فلك الأسرار، سمّاه الحقّ أمّيّاً لجمع أمّته، وجرميّاً لعظَم نِعمته، ومكّيّاً لتمكّنه عند قربته… ما أخبر إلاّ عن بصيرته، ولا أمر بسنّته إلاّ عن حقّ سيرته” ([14]).
الشطح
ثمّة موضوع آخَر عُرف به الحلاّج، ألا وهو الشطح. فقد عُرف بأنّه سبق المتصوّفة كافّة بشطحاته. والشطح عنده ممتزج بفكره ومذهبه: الحلول والاتّحاد. يقول:
أنا الحقُّ، والحقّ للحقّ حقُّ | لابسٌ ذاتَهُ فما ثَمَّ فرقُ ([15]) |
ويقول:
أنا مَن أهوى، ومَن أهوى أنا فإذا أبصرتَني أبصرتَه |
نحن روحان حَلَلْنا بدنا وإذا أبصرتَه أبصرتَنا ([16]) |
اعتبر المفكّرون والمتصوّفة أنّ الحلاّج وجوديّ، يؤمن بوحدة الوجود. وذلك لأنّه تلفّظ بعبارة (أنا الحقّ). لكنّ الحلاّج يعني غير ذلك، فحقيقة فكره أنّه يقول بالتعالي الإلهيّ المطلق. وهو يرى أنّ الذات الإلهيَّة لا تتّحـد مع الروح البَشَريَّة الحادثة، إلاّ فـي لحظات نادرة من الحياة الصوفيَّة. وعندهـا يرى الحلاّج أنّ الصوفيّ يكون شاهداً عند الله ولله، فيمكنه أن يقول: (أنا الحقّ).
آثاره
ترك الحلاّج عدّة مؤلّفات ذكرها ابن النديم في كتابه الفهرست ([17]). وذكر بعضها بروكلمان في كتابه “تاريخ الأدب العربيّ”. وأهمّ ما ورد في قائمة بروكلمان:
1- كتاب الطواسين ([18]). 2- الروايات ([19]). 3- ديوان الحلاّج ([20]). 4- كتاب السيور في نقد الدهور ([21]). 5- وينسب إليه كتاب، نُور المقل في الأعمال الروحيَّة والدكّ والحيل ([22]). أمّا المناويّ فيقول: “وللحلاّج تصانيف بديعة في التصوّف وعلم الحرف والسيمياء والكيمياء والطلاسم والعزائم والرقى، وغير ذلك” ([23]).
مقتله
أُدخل الحلاّج السجن في العام 301 للهجرة /915م، ثمّ قُدّم إلى الوزير ابن عيسى ليحاكم. لكنّ الوزير – الذي كان طيّب القلب – عارض الحكم عليه، فأودعه السجن مدّة ثماني سنوات، إلى أن وصل الوزير حامد إلى سدّة الحكم، وقد عُرف عنه، كرهه الشديد للحلاّج. فأصدر ضدّه فتوى جديدة بقتله، ثمّ نفّذ حكم الإعدام فيه يوم 24 ذي القعدة 309 للهجرة / آذار 922م. فقُطعت يداه ورِجلاه، ثمّ أُحرق جسده، ورُمي في نهر دجلة بالعراق ([24]).
يقول المناويّ: “إنّ سبب قتله أنّه أخذ كتاباً لعمرو بن عثمان المكّيّ، فيه علوم الخاصّة. فجاء عمرو فلم يجده، فقال: مَن أخذه قُطعت يداه ورِجلاه وقُتل… ولمّا خرج للقتل، خرج يتبختر في قيده ويقول: حسب الواجد إفراد الواحد! ويترنّم وينشد أبياتاً” ([25]).
أمّا الذهبيّ فقد كتب يقول: “إنّ الحلاّج عند قتله ما زال يوحّد الله ويصيح: الله الله في دمي! فأنا على الإسلام، وتبرّأً ممّا سوى الإسلام. والزنديق يوحّد الله علانيةً، ولكنّ الزندقة في سرّه” ([26]).
ويقول الإمام البغداديّ: “ولمّا تبيّن الحلاّج الصورة (أي صدور فتوى قتله)، قال: ظهري حمى ودمي حرام، ويحلّ لكم أن تتأوّلوا عليّ بما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنّة… ولي كتب في السنّة موجودة في الورّاقين، فالله الله في دمي” ([27]).
ويخبرنا ابن كثير قائلاً: فلمّا أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته، وفي رِجليه ثلاثة عشر قيداً، وجعل ينشد:
نديمي غير منسوبِ سقاني مثل ما يشر فلمّا دارت الكأس كذا مَن يشرب الرّاح |
إلى شيء من الحيفِ ب فعل الضيف بالضيفِ دعا بالنّصع والسيفِ مع التنّين في الصيفِ ([28]) |
أمّا ابن الأثير فيخبرنا أنّه لمّا قُرئت الاتهامات الموجّهة إلى الحلاّج على القاضي. قال له القاضي: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الأخلاص للحسن البصريّ، قال له القاضي: كذبت يا حلال الدم! قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا، فلمّا قال له: بإحلال الدم، وسمعها الوزير، قال له: أكتب بهذا فكتب بإباحة دمه… ولمّا سمع الحلاّج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله في دمي!” ([29]).
قول المؤرّخين فيه
يقول السلميّ: “المشايخ في أمره مختلفون، ردّه أكثر المشايخ ونفوه، وأبوا أن يكون له قدم في التصوّف. وقبله من جلّتهم أبو العبّاس بن عطاء وأبو عبد الله محمّد بن خفيف… وأثنوا عليه، وصحّحوا له حاله، وحكوا عنه كلامه، وجعلوه أحد المحقّقين، حتّى قال محمّد بن خفيف: الحسن ابن منصور عالِم ربّانيّ” ([30]).
ويقول ابن النديم عن الحلاّج: “قرأت، بخطّ أبي الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، أنّ الحسين بن منصور الحلاّج، كان رَجلاً محتالاً مشعبذاً، يتعاطى مذاهب الصوفيَّة ويتحلّى ألفاظهم، ويدّعي كلّ علم وكان صفراً من ذلك، وكان يعرف شيئاً من صناعة الكيمياء. وكان جاهلاً، مقداماً متدهوراً، جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدولة، ويدّعي عند أصحابه الألوهيَّة، ويقول بالحلول، ويظهر مذهب الشيعة للملوك ومذاهب الصوفيَّة للعامّة!” ([31]).
أمّا الإمام الذهبيّ فيقول: “كان يلبس المسوح، ووقتاً يلبس الدرّاعة، والعمامة والقباء. ووقتاً يمشي بخرقتين، فأوّل ما سافر من تستر إلى البصرة كان له ثماني عشرة سنة. ثمّ خرج إلى عمرو المكّيّ، فأقام معه ثمانية عشر شهراً، ثمّ إلى الجنيد…” ([32]).
ويقول الإمام البغداديّ “قال رَجل للحسين بن منصور: أوصني، قال: عليك بنَفْسك إن لم تشغلها بالحقّ، شغلتك عن الحقّ. وقال له آخَر: عظني، فقال له: كن مع الحقّ بحكم ما أوجب…” ([33]).
أمّا ابن الأثير فيقول في سرده لأخبار سنة إحدى وثلاثمئة، “حضر بدار عيسى رَجل يُعرف بالحلاّج، ويكنّى أبا محمّد، وكان مشعبذاً في قول بعضهم، وصاحب حقيقة في بعضهم” ([34]).
ويقول ابن كثير عن الحلاّج: “نشأ بواسط، ويقال بتستر، ودخل بغداد، وتردّد إلى مكّة مراراً للحجّ. وجاور بها سنوات متفرّقة، وكان يصابر نَفْسه ويجاهدها. ولا يجلس تحت السماء في وسط المسجد في البرد والحرّ، ولا يأكل إلاّ بعض قرص ويشرب قليلاً من الماء معه وقت الفطور مدّة سنة كاملة. وكان يجلس على صخرة في شدّة الحرّ في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفيَّة، كالجنيد بن محمّد، وعمرو بن عثمان المكّيّ، وأبي الحسين النوريّ” ([35]).
الحلاّج والمستشرقون
يُعتبر لويس ماسينيون، المستشرق الأكثر دراسة للحلاّج. إذ قد أعدّ أطروحته في الدكتوراه حول الحلاّج ودرسه دراسة مستفيضة ومعمّقة. فأظهر في بحثه مراحل تطوّر حياة المتصوّف الحلاّج، عبر التوبة ونكران الذات والتطهير، ثمّ انتقاله إلى نوع من تجربة الاتّحاد في ذات الله.
لم يكن الحلاّج – بالنسبة إلى ماسينيون – مجرّد متصوّف عاديّ، كباقي المتصوّفة. بل كان شكلاً من أشكال القوّة الفكريَّة. ونموذجاً لأعمق تجربة روحيَّة يتوق إليها كلّ متصوّف، لا بل كلّ إنسان. ويرى ماسينيون أنّ فكرة الحلاّج، في عبارته الشهيرة “أنا الحقّ” قد ساعدته على تفهّم نظريَّة اللاعنف عند غاندي.
لقد درس ماسينيون فكر الحلاّج، وتأمّله في عمقه. فوصل إلى أنّه ثمّة ترادف بين عفّة الراهب في المسيحيَّة، والامتناع عن العلاقة الجنسيَّة في أثناء فريضة الحجّ في الإسلام. لأنّ ممارسة الخلوة في الإسلام، تتطلّب العفّة. وهذا ما لاحظه عند الحلاّج، الذي كثيراً ما عاش العفّة التامّة لفترات طويلة في حياته. سواء في رسالته، في ما وراء بلاد الإسلام، أو خلال وجوده في مكّة المكرّمة. كما يرى فيه المجاهد الأكبر الذي عاش جهاده، ثمّ استشهد مجاهداً في سبيل حُبّه لله. ويتابع ماسينيون، فيرى أنّ جهاد الاستشهاد يرادف أضحية الحجّ. لأنّ الصلاة وقت الحرب ركعتان، والصلاة عند وقفة عرفة ركعتان، وصلاة العاشق ركعتان، ولا يصحّ وضوءهما إلاّ بالدم. ويكرّر – ماسينيون – قول الحلاّج عند صلبه: وفي الحجّ عند وقفة عرفة، يتساوى الرَجل والمرأة، وكذلك في الجهاد الأكبر يتساوى الاثنان.
نشر ماسينيون دراسات كثيرة عن الحلاّج. نذكر منها، عذاب الحلاّج والطريقة الحلاّجيَّة، في العام 1909. كتاب الطواسين في العام 1913. وقد نشره معتمداً على مخطوطي لندن وإسطنبول. وجاء النصّ باللغتين العربيَّة والفرنسيَّة. وفي العام 1931، نشر في المجلّة الآسيويَّة، ديوان الحلاّج، ثمّ أعاد نشره العام 1957. وجاءت هذه الطبعة مرفقة بترجمة فرنسيَّة، ذات نفحة أدبيَّة عالية. وفي العام 1946 نشر بحثاً تحت عنوان، أسانيد أخبار الحلاّج. ثمّ تبعه بحث آخَر عن حياة الحلاّج بعد مماته. بعدها نشر دراسة مستفيضة عن المنحى الشخصيّ لحياة الحلاّج. وتبعها في مجلّة الدراسات الإسلاميَّة بحث عن أسطورة منصور الحلاّج في بلاد الأتراك. وفي العام 1948، نشر كتابات العطّار عن الحلاّج. ثمّ نشر مراجع جديدة عن الحلاّج. أمّا قصّة الحلاّج (وهي قصّة بلغة شعبيَّة) فقد نشرها في العام 1954. والجدير بالذكر أنّ ماسينيون، نشر بالتعاون مع بول كراوس، كتاب أخبار الحلاّج.
وأخيراً، فإنّ ماسينيون يرى في شخصيَّة المتصوّف الحلاّج، خيـر همزة وصل بين المسيحيَّة والإسلام، في الشهادة من أجـل الدِين. فالتجربة الروحيَّة عنـد الحلاّج، يجمع فيها بين القدِّيسين في المسيحيَّة، والأولياء في الإسلام، سواء في التضحية، أو في الآلام، في سبيل الدِين والله.
مصادر البحث
1- ابن خلكان، أبو العبّاس شمس الدِين، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عبّاس، المجلّد الثاني، بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
2- المناوي، زين الدِين محمّد عبد الرؤوف، الكواكب الدرّيَّة في تراجم السادة الصوفيَّة، تحقيق محمّد أديب الجادر، الجزء الثاني، الطبعة الأُولى، بيروت – لبنان 1999.
3- الذهبي، الإمام شمس الدِين، سِير أعلام النبلاء، تحقيق مُحبّ الدِين أبي سعيد العمروي، الجزء الحادي عشر، الطبعة الأُولى، بيروت – لبنان 1996.
4- ابن كثير، أبو الفداء الحافظ، البداية والنهاية، تحقيق يوسف الشيخ محمّد البقاعي، الجزء السابع، الطبعة الثالثة، بيروت – لبنان 1998.
5- الخطيب البغدادي، الإمام الحافظ أبو بكر، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا، الجزء الثامن، الطبعة الأُولى، بيروت – لبنان 1997.
6- فخري، ماجد، تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة منذ القرن الثامن حتّى يومنا هذا، نقله إلى العربيَّة كمال اليازجي، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان 2000.
7- عرابي، محمّد غازي، الحكم اللدنية، الطبعة الأُولى، دمشق – سورية 2003.
8- بدوي، عبد الرحمن، شخصيّات قلقة في الإسلام، الطبعة الثالثة، الكويت 1978.
9- الحلاّج، الديوان يليه كتاب الطواسين، الطبعة الأُولى، كولونيا – ألمانيا 1997.
10- عبّاس، قاسم محمّد، الحلاّج الأعمال الكاملة، الطبعة الأُولى، بيروت – لبنان 2002.
11- غالب، مصطفى، الحلاّج الحسين بن منصور، بيروت – لبنان 1982.
12- مكارم، سامي، الحرج في ما وراء المعنى والخطّ واللون، لندن – بريطانيا 1989.
13- الشيبي، كامل مصطفى، شرح ديوان الحلاّج، دراسة شاملة تحقيق وتفسير، (منشورات أسمار) باريس – فرنسا 2005.
14- شرف، محمّد جلال، دراسات في التصوّف الإسلاميّ، شخصيّات ومذاهب، بيروت – لبنان 1984.
15- الحلاّج، كتاب أخبار الحلاّج، نشره لويس ماسينيون وبول كراوس، باريس – فرنسا 1936.
16- الزين، سميح عاطف، الصوفيَّة في نظر الإسلام (دراسة وتحليل)، الطبعة الثالثة، بيروت – لبنان والقاهرة – مصر 1985.
17- كحّالة، جوزيف إلياس، التصوّف الإسلاميّ، مصادر وأعلام، نقله عن الفرنسيَّة د. رامز حجّار، الطبعة الأُولى، دمشق – سورية 2006.
18- الذهبي، الإمام شمس الدِين، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمّد البجاوي، بيروت – لبنان، بدون تاريخ.
19- ابن الملقّن، سراج الدين أبو حفص، طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبة، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان 1986.
20- السلمي، أبو عبد الرحمن، طبقات الصوفيَّة، تحقيق نور الدين شريبة، الطبعة الثانية، حلب – سورية 1986.
21- الحسيني، هاشم معروف، بين التصوّف والتشيّع، الطبعة الأُولى، بيروت – لبنان 1979.
22- ابن النديم، أبو يعقوب إسحـق، الفهرست، تحقيق رضـا المازنداني، الطبعـة الثالثة، بيروت – لبنان 1988.
23- جاسم، عزيز السيّد، متصوّفة بغداد، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان 1997.
24- كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة، ترجمة الإمام موسى الصدر، الطبعـة الثانية، بيروت – لبنان 1998.
25- شيمل، آنّا ماري، الأبعاد الصوفيَّة في الإسلام وتاريخ التصوّف، ترجمة محمّد إسماعيل السيّد ورضا حامد قطب، الطبعة الأُولى، بغداد – العراق 2006.
26- ماسينيون، لويس، الآلام، الحلاّج، شهيد التصوّف الإسلاميّ، نقله إلى العربيَّة الحسين مصطفى حلاّج، الطبعة الأُولى، دمشق – سورية 2004.
27- الساعي البغدادي، علي بن أنجب، أخبار الحلاّج (من أندر الأصول المخطوطة في سيرة الحلاّج)، تحقيق موفّق فوزي الجبر، الطبعة الثانية، دمشق – سورية 1997.
28- شرف، محمّد جلال، الحلاّج الثائر الروحيّ في الإسلام، الإسكندريَّة – مصر 1970. ¡
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج8، ص112-135/ الإمام الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج11، ص322-349 / الإمام الذهبيّ، ميزان الاعتدال، ج1، ص548 / المناوي، الكواكب الدرّيَّة، ج1، ص68-76 / ابن الملقّن، طبقات الأولياء، ص187-188 / السلمي، طبقات الصوفيَّة، ص307-311 / ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص519-533 / ابن النديم، الفهرست 241 و243 / ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج5، ص69-72 / غالب، مصطفى، الحلاّج / عبّاس، قاسم محمّد، الحلاّج الأعمال الكاملة / الحنفي، عبد المنعم، الموسوعة الصوفيَّة، ص164-171.
(2) غالب، مصطفى، الحلاّج، ص19.
(3) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج8، ص114.
(4) بدوي، عبد الرحمن، شخصيّات قلقة في الإسلام، ص65.
(5) ماسينيون، أخبار الحلاّج، رقم 24، ص46.
(6) غالب، مصطفى، ص22-23.
(7) H. CORBIN, p.277
(8) ماسينيون، أخبار الحلاّج، رقم50، ص75.
(9) H. CORBIN, p.278
(10) ماسينيون، أخبار الحلاّج، رقم 50، ص75-76.
(11) غالب، مصطفى، الحلاّج، ص116 / ماسينيون، ص41.
(12) التفتازاني، أبو الوفا، مدخل إلى التصوّف الإسلاميّ، ص128.
(13) ماسينيون، ديوان الحلاّج، ص77.
(14) غالب، مصطفى، الحلاّج، ص95.
(15) ماسينيون، أخبار الحلاّج، رقم74، ص108.
(16) ماسينيون، ديوان الحلاّج، ص93.
(17) ابن النديم، الفهرست، ص242-243.
(18) نشره ماسينيون في كتابه للمرّة الأُولى عام 1912، في باريس. ونشره آخَرون، نذكر منهم مصطفى غالب، قاسم محمّد عبّاس، بولس نويا.
(19) نشره ماسينيون في مجموعته الفرنسيَّة عام 1963.
(20) نشره ماسينيون في المجلّة الآسيويَّة عام 1931.
(21) بروكلمان، تاريخ الأدب العربيّ، ج4، ص68-69.
(22) المرجع السابق.
(23) المناوي، الكواكب الدرّيَّة، ج2، ص74-75.
(24) H. CORBIN, p.278.
(25) المناوي، الكواكب الدرّيَّة، ج2، ص70.
(26) الذهبي، سِير أعلام النبلاء، ج11، ص348.
(27) البغدادي، تاريخ بغداد، ج8، ص133.
(28) ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص531.
(29) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج5، ص71 / ذكر هذه الحادثة أيضاً البغدادي وابن كثير والإمام الذهبي.
(30) السلمي، طبقات الصوفيَّة، ص308.
(31) ابن النديم، الفهرست، ص241.
(32) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج11، ص323.
(33) البغدادي، تاريخ بغداد، ج8، ص114.
(34) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج5، ص41.
(35) ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص519-520.
*بقلم: د.جوزيف إلياس كحَّالة – باريس