دخل للزنزانة أول مرة، لم يكن سارقا ولا قاتلا، ولا تاجر مخدرات، كان مدرس لغة عربية بسيط,أربعيني، متوسط الشكل،قصير القامة، أصلع، لا شعره له، دائري الوجه، أملس الحواجب، منحني الظهر، مقوس الكتفين، صاحب نظارات، تارة حمراء وتارة بنية وفي أوقات العمل يرتدي السوداء,كان الغمام يحوم حول أشعاره، أما زجله فكان جافا ودائما يسقى بماء البئر صبيحة كل يوم أثنين في مقهى الظلام، هناك…
حيث النادلة…
اااه النادلة…
كان هذا صوت تنهضه كلما ذكر إسمها…
نعيم…
لا يكتب شيئا إلا و عين النادلة هناك…
تسقيه مرة
وتجفيه مرة
حيث الممر أمام المقهى ، شارع يتجه نحو السراب…
حافلات النقل، و سيارات الأجرة، ودرجات نارية، وعربات تجرها الأحصنة…
ألقي القبض عليه بتهمة شيكات غير مدفوعة بإسمه…
نصب و إحتيال ؟
لا
اللعين لا يجيد إلا نصب حروف اللغة…ونصب أخر
يعرفه شاعر الغمام و عرش…
ذلك النصب الذي يأتي حينما يسقى بعين النادلة…
فتشكل حروف أشعاره نصبا…
لم يكن مجرما…
لكنه رأى المجرمين هناك في الزنزانة…
أصوات مخيفة، و أشكال مرعبة…
شاعر في الزنزانة لأول مرة…
ماذا سيرى، توسد المسكين حذائه ، والطقس شديد البرودة… أما الغطاء فكان نتنا…
و النتانة نوعان تلك التي تسبقها الرائحة و تلك التي تكشفها الروح، تماما كالشعراء، ذاك الذي تبكي أشعاره على أحوال الخلق، وذلك الذي يمدح عين النادلة…
و عين النادلة لا تخطأ في كشف معدن الشعراء…
كان شاعرا بسيطا، وإنسانا متواضعا، فلم يستطع أن يكتب حرفا في الزنزانة، فقد رأى برهان الكلمات في المساجين، فمنهم المجرمين ومنهم المظلومين، فخذلته أبيات الشعر
و حاول أن يكتب قصة شبيهة بدهاليز الأحد، نسجت أحداثها بخيوط تشبه بيت العنكبوت، فاستيقظ من نومه على أصوات عمال النجارة و الحدادة بجوار بيته…
فقد كان حلما لشاعر في الزنزانة…
لم يكن مجرما…
ولكن عين النادلة..
جعلت منه شاعرا ماكرا…
عبد الرحيم الشافعي