بعد مشاهدته في أول عرض له على قناتنا “الأولى” ليلة الجمعة 5 نونبر 2021، شدني إليه الفيلم التلفزيوني الجديد “إكتشاف” (2020) للمخرج يزيد القادري. فلم يخب أفق انتظاري لما عهدته في مبدعه الشاب من جدية في الاشتغال على مواضيع ذات عمق إنساني بحساسية فنية لا تخلو من شاعرية وتمكن من أدوات التعبير بالصورة والصوت على مستويات عدة، سواء في فيلميه السينمائيين القصيرين “مداد أخير” أو “أغنية البجعة” أو في فيلمه لفائدة قناة الجزيرة الوثائقية حول المبدع الموسيقي المغربي الراحل سعيد الشرايبي.
أعدت المشاهدة على “اليوتوب” وخرجت بمجموعة من الملاحظات والإنطباعات أوجزها كما يلي:
أولا، فيما يتعلق بالمضمون تمحورت قصة هذا الفيلم الجديد حول معاناة أب مع ابنيه الشابين بعد تخرجهما من الجامعة والحصول على شواهد علمية وأدبية دون العثور على مناصب شغل تجعلهما مستقلين اقتصاديا عن الأسرة التي عانت الأمرين في سبيل تعليمهما على امتداد سنوات ليست بالقليلة. ولعل الفكرة الأساسية التي دافع عنها كاتب السيناريو والحوار الأستاذ منصف القادري، من خلال شخصية الأب (من أداء محمد الشوبي)، تتمثل في ضرورة اعتماد المتخرجين وحاملي الشواهد العليا على أنفسهم عن طريق المبادرات الشخصية من أجل شق الطريق في الحياة التي أصبحت معقدة وصعبة، خصوصا بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود أو المنتمية إلى الطبقات الوسطى، والقبول بما هو متوفر من المناصب في انتظار الأفضل، وذلك لأن الانتظار السلبي لفرص الشغل المناسبة التي قد تأتي أو لا تأتي من شأنه أن يعقد الوضع ويشنج العلاقات بين الأبناء والآباء.
عدنان بطل الفيلم (من أداء هاشم بصطاوي) حاصل على دكتوراه في الفيزياء ومهووس بالتجارب التي قد تقوده يوما ما إلى اختراعات علمية وتقنية، إلا أن هذه التجارب تتطلب مصاريف لم يعد والده قادرا على توفيرها، ومن هنا تتأزم علاقة هذا الأخير بابنه، خصوصا بعد تعثرات سابقة وخيبة أمل مني بها عدنان بعد عدم حصوله على براءة اختراع آخر اكتشاف ناجح له، الشيء الذي أدخله في حالة اكتئاب.
ثانيا، الفيلم إيقاعه متوازن نسبيا (المونطاج قام به محمد طيبي) وأحداثه واقعية وأداء الممثلين والممثلات في مختلف الأدوار وإدارتهم جد مقبولين مع تميز ملحوظ لهاشم بصطاوي وهند بن اجبارة وجليلة التلمسي ورانية التاقي لأنهم كانوا أكثر تلقائية. ورغم الاعتماد أكثر على الحوار وطغيان الموسيقى التصويرية، وهي من إبداع كميل أكسيل، وتكثيفها في بعض المشاهد إلا أنهما كانا من بين أدوات التعبير التي ساعدت المخرج في تقريب المتلقي من بعض هموم وأحاسيس وهواجس شخصيات الفيلم وهم يمرون بحالات نفسية معينة.
ثالثا، من نقط قوة هذا الفيلم التلفزيوني الطويل الأول ليزيد القادري تمكن مخرجه ومدير تصويره الشاب وليد لمحرزي علوي من إظهار فضاءات الرباط وبعض معالمها ليلا ونهارا (صومعة حسان نموذجا) في حلة جميلة، من شأنها أن تسوق لعاصمة المملكة سياحيا بشكل مقبول.
رابعا، نهاية الفيلم لم تكن مفاجئة، بل واقعية لا تخلو من أمل، وذلك لأنه في اللحظة التي اقتنع فيها بطل الفيلم وأخوه عصام المجاز في اللغة الأنجليزية (من أداء مهدي تكيطو) وصديقة هذا الأخير عتيقة المجازة في الرياضيات (من أداء رانية التاقي) بفكرة الأب المتمثلة في إحداث مركز خاص للغات ودروس التقوية، فتحت أمامهم آفاق جديدة، حيث تبنت عتيقة وعصام الفكرة وتمكنا من الحصول على قرض خاص بالمقاولين الشباب. كما أن استلهام بطل الفيلم لفكرة اكتشاف جديد من أحد الرسوم الكاريكاتورية لوالده، الذي كان ولا يزال يمارس فن الكاريكاتور كهواية منذ زمان، وفوزه بالجائزة الكبرى للاختراعات والتكنولوجيا في مسابقة دولية أعاد إليه ثقته في نفسه وفي قدراته كمخترع موهوب، خصوصا وأن صديقته فرح (من أداء هند بن اجبارة) لم تفتر يوما عن تشجيعه ودعمه معنويا وتقدير مواهبه.
خامسا، أعتقد أن أسرة القادري الفنية أصبحت تشكل نواة صلبة للإبداع السينمائي والتلفزيوني يمكن المراهنة عليها مستقبلا لإنجاز أعمال درامية مشرفة شكلا ومضمونا، فالأب منصف راكم تجربة معتبرة في مجال كتابة السيناريو، والإبن فيصل يشق طريقه بثبات في مجال الإنتاج وتنفيذه، ويزيد برهن أكثر من مرة على أنه مخرج واعد وله رؤيته وبصمته الخاصتين.
يمكن القول إجمالا أن التلفزيون المغربي قد كسب مخرجا شابا متميزا آخرا (يزيد القادري) سينضاف إلى قائمة المخرجين الشباب الذين ضخوا دماء جديدة في شرايين إبداعاتنا الدرامية وغيرها من قبيل محمد أمين مونة وعلاء أكعبون وغيرهما.
سادسا، كاتب السيناريو لم يفته تثمين الفن واعتباره ضروريا لخلق توازن في حياة الإنسان (الأب نموذجا)، فممارسته كمهنة ربما لا تحقق العيش الكريم للجميع، لكن اللجوء إليه من حين لآخر قد يشكل متنفسا ملائما عندما تواجهنا مشاكل وهموم اليومي. فعندما اطلعت عتيقة على عينة من الرسومات الكاريكاتورية لوالد عصام أعجبت بها واقتنعت بأن المركز الخاص الذي ستديره رفقة عصام لن يقتصر على تعليم اللغات وتوفير دروس الدعم والتقوية فحسب بل أضافت إلى برامجه انفتاحا على الفنون السمعية البصرية والمسرح والتنشيط الإذاعي وأنشطة الرسم والموسيقى وغيرها.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أن فيلم “إكتشاف” (95 دقيقة) من إنتاج الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، نفذته شركة البجعة للإنتاج (Cygnus Prod)، وقام بتشخيص باقي أدواره عبير الصبير (في دور ليلى أخت عدنان وعصام) وهشام إبراهيمي ونسرين ياحي…
لمن فاتته مشاهدة الفيلم فيما يلي رابطه على اليوتوب: https://www.youtube.com/watch?v=KIoG_sMYVco
أحمد سيجلماسي