الرئيسيةإبداعقصة: آثار على رمال الشاطئ

قصة: آثار على رمال الشاطئ

عاد إلى بيت الوالدين، وهو من بين بيوت قرية يسكنها الصيادون الذين يخوضون أمواج البحر بقوارِبِهم الخشبية، وبشِباكهم الـمُرممة؛ بعد غياب دام سنتين.
كان قد ركب القطار من المدينة التي كان يتابع دراسته بإحدى كُلّياتها؛ إلى محطة سكة حديد انعزلت؛ على بعد مئات الأمتار؛ عن منازل قليلة، ودكّانين، ومحل جزارة، ومقهى بكراس وموائد؛ مُركّبة بمنشار ومطرقة مسامير، ومصبوغة بالأزرق، وترجل من إحدى العربات في وقت العصر، وسار، وصوت محرك القاطرة يتبعه؛ في طريق ضيق مُتترّب؛ بين سياجات من سيقان قصب عالية ومورقة؛ تحيط بالحقول؛ أكثر من نصف ساعة؛ إلى أن أشرف على شاطئ البحر؛ حاملا بيمناه محفظة كُتب وكراريس وأقلام، وتتدلى من كتفه الأيسر حقيبة حوائجه بحاملها، فأحس بنسيم يلمس وجهه ببرودة منعشة؛ الذي جف بالتحديق الطويل؛ في مداد كتب بيبليوغرفية البحث في علم من العلوم الإنسانية؛ أنجزه ليحصل على (دبلوم) يؤهله إلى مرحلة نيل شهادة الدكتوراه.
وكان قد طال زمن لم يُرفرف فيه طرف لباسه بريح خريفية، لأنه كان حبيس جدران حجرة مكتراة من حُجر حي ضيقة أزقته، ومكتظ بالسكان، فكان صدره قد انشرح بذلك، وفي هذا الوقت، وقلبه حي يدق بغير انقباض في عضلته، وسرى نشاط في جميع جسده، وامتد شعور من باطنه؛ ظهر ابتسامةً على أديمه؛ فكان بسعادة طور من حياته؛ كان قد غاب حتى حقق ما كان يرغب فيه، ويسعى إليه باجتهاد، وبمدة اشتد بعدها شوقه إلى والديه، وإلى حجرته التي ما تزال مُؤثثة بسرير خشبي، وبخزانة كتب من أنابيب قصب جافة، ومكتب صغير، والقرية، والشاطئ الذي حبا على رماله وصخوره، وسبح وهو طفل في ماء محجوز جزرت عنه الأمواج، وعام في البحر وهو فتى بساعدين يتقوّيان.
دخل إلى البيت، فكان لقاؤه بوالديه فرحة، وعطفا وحنانا، وغمرته حجرته بحنين إلى فراشه، وغطائه، وكتبه، ودفاتره القديمة، وأقلامه الـمُبراة، وفرشاة رسوماته، وأصبغته.
ويزداد اطمئنانا، ويرتاح باله؛ عندما يتذكر مقالات كتبها، ونشرتها مجلات وصحف ورقية ورقمية، غدا بها صحافيا في أحدها، ويتلقى أجرا على ذلك، فيكون قد تعلم وتثقف وتمرن، وشحذ له أسلوب كتابة يسبر به القضايا، ويبحث عما يستوجب، أو يتطلب الكتابة عنه.
في الغد استيقظ باكرا على ضوء مُشرق؛ شعّ من الكُوّة، وتناول فطوره، وحمل كتابا، وخرج؛ يريد أن يمتع نفسه بمشاهدة حركة نشاط لا غنى للشاطئ عنها؛ كما عهد هو، وهو رجوع الصيادين بقواربهم في ذلك الوقت؛ محملة بصناديق السمك، وبالشباك المكومة، وهدير الجرار القاطر للقوارب، والذي لم تسمعه أذناه في ذلك الصباح كما اعتادت، ومزاد يتحلق فيه البائعون، يتزايدون في أثمنة الصناديق، فلم ير إذن أيا من ذلك، ولم يسمعه، وطفقت عيناه تتنقلان في أرجاء الشاطئ الفارغة؛ إلا من قارب مفككة قطعه؛ متهرئة أخشابه؛ ورأى شبكة مثلومة؛ منشورة عليه، وتاهت عيناه تلك في بحر خال؛ لا قاربا يطفو عليه، وخطا، ولم يبق غير الرمل يُلقي إليه ببصريه؛ فالتقطا آثار أقدام تتالى قادمة من البحر، وحَفْرَ عجلات جرار القطر؛ المنحوت بمطاطها؛ ينتظر كل ذلك مدَّ المساء ليمحوه.
استغلق عليه ما شاهد…
أيعنيه هذا ليعرف لماذا؟ كان عليه أن يَنْفُض ذهنه من ذلك، ويمضي مستمتعا بوقت فرغ باله فيه من أي التزامات أو واجبات؛ لكنه صحفي، وهو في بداية مشواره، ويتطلب منه هذين أن لايجهل ما يجري، وعليه أن يسأل ويجد الإجابة، وقد يكتب مُتطرقا إلى العناصر التي خلقت ما وقع، فمشى يمينا، وتطلع من جرف صخري إلى خليج؛ عثر به أخيرا على قوارب؛ تختلي ببعضها البعض متهادية بالأمواج، ولا أحدا من الصيادين موجود، فرجع سائرا إلى اليسار، فظهرت له مقدمات زوارق تصطف مشدودة بحبال إلى الأعماق؛ على رصيف صخري، ولا وجود لأحد كذلك، فزاده هذا إلحاحا في السؤال عن السبب.
لم يتعجل فيسأل أحدا يظهر وهو في الشاطئ، ورجع بعد ساعة، وكان ما يألفه هو أن يجد دفتي باب دكان صغير مفتوحتين، وزبونا أو زبونين يشتريان خبزا أو حليبا أو شايا أو زبدة، أو غير هذا، وأباه يُنقَد بما يبيع، لأنه صاحب المحل؛ وهو حجرة استعاظ بها لذلك، وكانت الساحة وما بين البيوت قفرين، وكان قد خرج في الصباح خافضا رأسه، فلم ينتبه إلى شيء آخر، وهو يراه في آن؛ سواء في بيتهم أو في البيوت الأخرى، وهو أن الحيطان القديمة المشققة؛ أستُبدِلت بحيطان من آجور مضغوط بمخلوط الإسمنت والحصى، ومطلية بالأبيض، فتساءل:
– أفي مدة سنتين حدث تغير في الشاطئ وفي القرية؟
حاول أن يستفهم أباه عما لاحظه، أجابه قائلا:
– لم يعد الصيادون يُبكّرون، فلا أفتح أنا أيضا الحانوت إلا في الساعة العاشرة.
سأله مرة أخرى؛ يريد أن يعرف ما إذا كان هناك ما هو خاف عنه:
– أما من سبب لذلك؟
أجابه أبوه الذي أصبح في سن شيخوخة لا يهتم فيه بأمور يتكرر مثلها، ولا يتحمس لها؛ كابحا إياه عن الاستمرار في طرح الأسئلة:
– أيكون لنا فعل في ذلك أو نفع… قد أدري وأتفادى الكلام فيه.
لم يُضِف أيّ سؤال، وترك أباه الذي توجّه إلى باب محل البيع الداخلي؛ المؤدي إليه؛ ليُشرِّع الدفتين الخشبيتين والمصفحتين بالقصدير عن سلعته.
كان يدل آذان صلاة العشاء، الذي سمعه بعد أن حل المساء يأتي من بين بنايات بعيدة عن الساحل، ورجوع المصلين من هناك؛ على بداية وقت من الليل يفرغ فيه الشاطئ والأزقة من المارة، ومن تأخر فإنه يُسرع خطواته، وهذا ما عهده كذلك، وكان قد استغرب ما لاحظه في النهار، فخرج لعله يكتشف لمن تكون تلك الآثار على الرمل الليلية؛ أهي لصيادين أم لآخرين، وإذا ما يكون هناك ما يجري، ووصلت إلى أذنيه أصوات لضحكات ولعب بالورق، وتهديدات مزاح، ونداءات بطلبات طعام وشاي، وضرب قنينات بعضها ببعض، أو بكؤوس زجاجية، فعرج، ومن باب ضيق مُوارب رأى جماعة الصيادين تقصف، فقال في نفسه مستنتجا: «فهذا إذن هو وكرهم الليلي»، وطرح سؤالا:
– هل يقومون بعد الشّبع واللهو إلى عمل ما؟
وتابع خطواته، وكان البحر في مده، وانحدر؛ تغوص قدماه في الرمال، وأطلق ناظريه في طول الشاطئ وفي البحر، ثم اتجه إلى صخرة واعتلاها، وطفق يتسمع ويتبين أجساما قد تتحرك، وطال زمن إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان الذي شاهده قاربان يظهران من بين الأمواج قريبا من الأفق، وصارا يدنوان وببطء من الشاطئ، لم يظهر له عليهما غير القابضين بمقبضي المحركين يوجهانهما. كان الصوت الميكانيكي يأتي خافتا، ثم انقطع، ورأى سواعدا تجذف، ويغير الزورقان اتجاههما، ويبتعدان موازاة مع الرصيف البحري، ويرسوان، وتغادرهما رؤوس آدمية، وتتحرك؛ مُوارِية جذوعها بصخور الرصيف وتختفي.
أيتقدم ليعرف من هم؟
اقتحام عالم الليل يتطلب الحيطة والحذر، فلزم مكانه حتى سكن الرصيف، والتفت إلى منازل القرية، وارتأى أن يعود.
في الصباح قصد تلك الناحية، فشاهد آثار أقدام على الرمال؛ عدها فكانت عشرة أزواج من الوطء، ولا وجود للزوارق، قال:
– فهناك إذن أمور غريبة تحدث في الشاطئ؛ غيرت نظام حياة الصيادين وباقي السكان ومن مستوى معيشتهم.
وهو متيقن وواثق النفس بأن كل ليلة تمر إلا ويطلع على المزيد، ويكشف له عما يجهله، وفي ليل اليوم التالي لم يترك البيت إلا في الساعة الواحدة، وأول وجهة قصدها هي المقصف، فكان أن صادف خروج بعض الصيادين؛ لا ليأووا إلى منازلهم، وإنما هبطوا منحدر الشاطئ، وتفرقوا في الظلام؛ في عدة اتجاهات، وكان السير يطول بهم إلى الخليج، وإلى الرصيف الصخري؛ لم يتبعهم وإنما ظل يمشي غير بعيد من المقصف وبين طريقين ضيقين، وفي إحدى اللحظات سمع قهقهة امرأة، فالتفت إلى مصدرها، فرأى فتاة إفريقية غامقة السحنة، وأحد الصيادين يضم خصرها إليه بقوة، وهي تقول له بالفرنسية، وبلُكنة إفريقية ممتلئة النطق، ومقعرة الصوت؛ وبضحك استمالي:
– Je suis fiancée
وهو يقول:
– من هو خاطبك؛ أهو أخطبوط عملاق يعيش في قلعة من مغاور أعماق البحر؛ يحيط جسدك بأذرعه الطيّعة واللينة، ويُدغدغه بمسّامه؟
وانفلتت منه وجرت إلى ما وراء كثيب رملي، وغابت بين أشجار غابة مُغطّاة بأتربة؛ راكمت على بعضها ممهدات ميكانيكية رُدوما من الأتربة والحجارة.
كانت تلك المرأة الإفريقية ومضة في ذهنه، كما تومض أسنانها الناصعة البياض في حُلكة وجهها وفي ظلمة الليل؛ عندما انفرجت شفتاها الغليظتان عن آخرهما لتُطلق تلك الضَّحكة بصوت إفريقي قوي، فتبعها، ولم يكن يرى منها في بعض من المسارب إلا يديها ترفعانهما بنشاط شبابي، وخصرها الفاتن يميل مع كل انعطاف منها وبرشاقة، ثم انمحت من أمام عينيه كشيء كان في الخيال، واستمر يسير بين صخرتين كبيرتين، وتل متراكم من التراب، ورفع رأسه إلى أعلى؛ إلى قنطرة كان قد أُنْتُهِي من بنائها، واصطدم بحائط عال مسقوف بصفائح الحديد، ورأى شاحنة يأكلها الصدأ، وآلة صانعة قديمة، فاستحضر من الماضي معمل إنتاج الفلين، فهذا مستودعه، وتلك آلة قلع سدادات من لحاء أشجار الفلين؛ هُجر منذ مدة طويلة، وصار في امتداد مشروع طريق واسع، فدفعت آلاتُ جرفٍ التربةَ والحجارة؛ لإنشاء قاعدة أفقية لإسفلت طريق ناعم وسلِس؛ إلى المنخفض، فلم يبق يظهر من معمل سدادات الفلين ذاك إلا جزءا من سطحه، فهبط رُكاما، أتربته وصخوره منهالة عند بقايا باب المستودع العريض، سمع بكاء رضيع، وهدهدةَ أم تحاول إسكاته بأن تُلقمه حلمة ثَديها ليرضع حليبها، أو تدس في فمه قطعة مما يؤكل، وكلاما متبادلا بين شابين عُتُلّين، فأطل فشاهد ما دهش له؛ أكثر من عشرة نفر من سود بلدان جنوب الصحراء، ينشرون على حبال ستائرا تعزل ما بين أفرشة يضجعون عليها، وكل واحد منهم أو جماعة من فردين أو ثلاثة؛ يطبخ أكله على نار جمر ملتهب في حفر، فتراجع خطوتين بهدوء حتى لا يُلفت انتباههم، وغادر ذلك المنخفض المريع؛ الغارق في جذوع أشجار مجثة، وميتة، وفي مستودع مهددة أركانه بالسقوط، وسقف متهاوية أعمدته وصفائحه الحديدية غزاها الصدأ؛ تأوي إليه جماعة من أفارقة هاجروا سرا لتحقيق حلم ما يزال يلوح لهم في أفق البحر.
أدرك أخيرا لمن تكون آثار الأقدام على رمال الشاطئ تلك؛ إنها لهؤلاء؛ ينقلهم الصيادون من البحر ، ولا يمكن أن يبحروا إليهم بالقوارب أكثر مما يستطيعون، ولا يبتعدون بحيث لا تظهر لهم علامات الشاطئ التي يسترشدون بها في عودتهم، فلا بد أن يعرف المزيد لتكتمل عناصر القصة.
في الغد استأجر قاربا بمحرك بنزين، وفي الساعة العاشرة ليلا أبحر به؛ مُبتعدا عن خط عودة قوارب الصيادين، وتوقف، وجلس في قعر القارب مُسنِدا ظهره على جانبه؛ بحيث لا يُرى، وظل يطل برأسه ومن بين قمم الأمواج مُراقبا أرجاء البحر؛ ناظرا من وقت لآخر إلى ساعته، ولم يـَمُلّ انتظار ما قد يحدث، وانتصف الليل، وبعده بعشرين دقيقة ظهر مركب صيد من مراكب الموانئ آتية من الأفق، بضوء خافت؛ معلقٌ مصباحُه على صار حديدي قصير، وصار يقترب ويتوقف، وتتجه إليه ثلاثة قوارب من قوارب الصيادين؛ قادمة من شاطئ القرية، وينزل إليها من المركب أفراد؛ الواحد تلو الآخر، وتكر بهم الزوارق إلى الشاطئ، لتطأ أقدامهم على الرمال، ولا يمحو آثارها إلا مد مياه الغد، وتكون دليلا ماديا على أقدام مهاجرة من بلدان أرض السود.
عاد بمهل، وربط القارب بعمود بيت صاحبه، ودخل إلى حجرته، وجلس إلى مكتبه؛ لم ينتظر حتى الغد ليخُط على الورق، وتدفق مداد قلمه؛ لا ليكتب عن سفينة تُبحر من البحار الجنوبية بمهاجرين من بلدان إفريقية، ومركب صيد يُساحِل بهم، وقوارب صيادين تنقلهم من عُرض البحر إلى البر، مقابل مبالغ من المال، والذي تصدى له هو معاناة أولئك المهاجرين، وهم يلتجأون إلى بنايات مهجورة، مفتقرة إلى مستلزمات الحياة اليومية؛ وإقامة مآو مؤقتة لهم قد تُخفف من ذلك.

 

أحمد القاسمي

أحمد القاسمي
أحمد القاسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *