قبل خمسة أشهر، أصدر الشاعر الفرنسي برنار نويل، الذي رحل يوم الثلاثاء عن عالِمنا، كتابَه الأخير: “لمْسة هوائية”، الذي يواصل فيه حواراً مستمرّاً منذ نحو ستّين عاماً مع الفنّ والفنّانين. يضمّ العمل قصائد لنويل تُجاور لوحات أشجارٍ وضعها برنار مونينو، وكان يُرسلها إلى الشاعر بشكل يومي، طيلة أيام الحجْر الصحّي الذي عاشته فرنسا ربيع العام الماضي.
هكذا، أثمر العمل 57 قصيدةً ومثلها من اللوحات، في مُجاورةٍ لا تلعب القصيدة دور التعليق أو الشرح فيها، بل تمثّل امتداداً بالكلمات لما بدأته خطوط الرسّام. في إحدى قصائد الكتاب، يكتب نويل (1930 ــ 2021) مخاطباً واحدة من أشجار مونينو: “لا تَخْضَرِّين، بل تدفعين الأخضر إلى أغصانك؛ تتنفّسه نظرتي فيخضرُّ المكان. ذلك هو حوارُنا: تعلّمينني لمس الهواء”.
لم تكن سنوات الشاعر التسعين، والظروف الصحّيّة التي كانت (وما زالت) تعيشها فرنسا، وكذلك العالَم، عائقاً أمام استكماله مشاريعه الكتابية وحواراته مع فنانين وكتّاب، وهو الذي ظلّت القصيدة والكلمات تجري في عروقه حتى أيامه الأخيرة. بل إنّ شهوره الأخيرة شهدت إنتاجه أعمالاً أخرى، كمقدّماتٍ لكُتُب أو مراجعات لأُخرى.
لكنّ من أكثر إصداراته الأخيرة دلالةً، إذا ما نظرنا إليها في سياق تجربته الطويلة والغنية، إصدارُه، صيفَ 2020، قِسماً من مراسلاته مع الكاتب والمفكّر ميشيل سوريا، يتناولان فيه مسألة الثورات. وقد حمل الكتاب، الذي ضمّ رسائل تبادلاها بين عامي 1991 و2019، عنوانَ “عن قليلٍ من الثورة”.
يقول هذان الكِتابان، “لمسة هوائية” و”عن قليل من الثورة”، الصادران خلال مدّة من الزمن لم تتجاوز أربعة أشهر، الكثير عن تجربة نويل، هذا الشاعر الذي لم تكن القصيدة تعني، بالنسبة إليه، برزخاً يفصله عن الواقع ويحميهم من أسئلته السياسية والأخلاقية. منذ بداياته وخطّا الشعر والالتزام السياسي يمثّلان سكّةً واحدة تقود تجربته: سكّة لا يمكن فصْل الجمال والقول الشعريّ فيها عن موقف أخلاقي وسياسي ينقد الظلم ويطالب بالعدْل وبحقوق من تُهضَم حقوقهم.
لم يخفِضْ يوماً نبرته في الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني
وليس غريباً، والحال هذا، أن يكون برنار نويل من الأصوات التي لم تُخفِضْ يوماً نبرتها في الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وفي الانتصار لقضايا العالَم العربي العادلة، وهو الذي كان قِسمٌ كبير من صداقاته وسنوات عمره مرتبطاً بهذه المساحة من الكوكب، التي اكتشفها شابّاً خلال دفاعه عن حقوق الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، ثم زادت معرفته بها في زياراته إلى بلدان أحبّها وصادق بعضاً من ناسها وشعرائها وفنّانيها، مثل المغرب وسورية.
في زيارة له إلى الدوحة، عام 2004، على هامش تصوير فيلمٍ كان مشاركاً في كتابة نصِّه، قال نويل لصحيفة “الدستور” الأردنية إنه يعتبر نفسه فلسطينياً، وإنه يقتسم مع أبناء وطنه الثاني هذا، فلسطين، أحاسيس الظلم والقهر والرغبة في الثورة. لم يكن هذا الكلام مجرّد حماسةٍ عابرة، بل تعبيراً عن موقفٍ إنساني وأخلاقي ظلّ الشاعر الراحل ملتزماً به طيلة تجربته. تجربة يمكن وصفها بالحِوارية، إذ لم يتوقّف الشاعر ليس عن الحوار مع فنّانين وكتّاب آخرين، بل أيضاً مع ثقافات وأسماء تنتمي لها، وهذه ما فعله في علاقته بالعالَم العربي، الذي كتبه عنه ومن أجله، وقدّم عدداً من كتّابه إلى القرّاء الفرنسيين، ودافع عن قضاياه.
في المقابل، حظي الشاعر الراحل بضيافةٍ مثيلة عربياً، حيث يُعَدّ واحداً من أكثر الشعراء الفرنسيين ترجمةً. ولا تضمّ المكتبة العربية ترجمات لعددٍ من مجموعاته وأعماله الشعرية فحسب، بل وكذلك نصوصاً فكرية، ومقالات سياسية ونقدية. ويعود فضل أساسي، في هذا، إلى الشاعر المغربي محمد بنيس، الذي ترجم له عناوين مثل “هسيس الهواء: أعمال شعرية” (1998)، و”كتاب النسيان” (2013)، و”طريق المداد” (2014)، و”الموجز في الإهانة” (2017). كما عُرِّبت لنويل أعمالٌ أخرى، مثل “لسان آنَّا”، بترجمة بشير السباعي، و”تناذر غرامشي” الذي ترجمته ميساء سيوفي، إضافة إلى كتاب عن الفنان البلجيكي رينيه ماغريت، ترجمه رفعت سلام.
برحيل برنار نويل، تفقد القصيدة الفرنسية المعاصرة واحداً من أبرز أصواتها، حيث كان صاحب “كتابة البحر” من الأسماء التي استطاعت بناء مساحة خاصّة بها على خريطة الشعر الفرنكفوني؛ مساحةٌ تتألّف من أكثر من خمسين عملاً بين شعر ومقالة ورواية وكتاب عن الفن.
المصدر: العربي الجديد