إذا كان للمجتهد المصيب أجران، وللمجتهد غير الموفق أجر واحد، فإن أبناء القصر الكبير وبناته من الأدباء والفنانين والمفكرين، يستحقون الأجرين وليس أجرا واحدا. ذلك أنهم لم يحققوا ما حققوه، بأقل جهد وأقصر طريق، ولا ولدوا وفي فمهم ملعقة من ذهب، بل بالجهد والجد والمثابرة والمعاناة والتحدي، بسبب الظروف القاسية التي مروا بها في بيئة متواضعة.
والشاعرة نجاة الحبوسي مثال ناطق عن هذا. فهي من مواليد مدينة القصر الكبير سنة 1963. وقد نشأت في كنف أسرة ملتزمة ومحافظة. وكانت أول ابنة لها تلج المدرسة، بعدما تعلمت حروف اللغة العربية، والارقام بالفرنسية والإسبانية، وبعض السور القرآنية، على يد والدها رحمة الله عليه. ثم تلقت تعليمها الابتدائي بمدرسة ابن خلدون، حيث درست بهذه المدرسة العريقة على يد أساتذة أجلاء، حملت لهم كل الاحترام والتقدير، أهمهم إضافة إلى والدها، ذة. الخشاني مليكة،_ذ. المهدي الريفي، ذ.السليماني، ذ. عبد العزيز الحمدوني، ذ. محمد الحراق، ذ. عبد الرحمان الناصري، كل الرحمة على من غادرنا الى دار البقاء، واطال الله عمر الباقين ورزقهم الصحة والعافية. وكان من فضائل هذه المرحلة، أنها تعلمت تحمل المسؤولية رغم صغر سنها.
كان لمشاركتها في المخيمات، الأثر الكبير في تنمية شخصيتها، حيث كانت تقضي أياما بعيدة عن عائلتها. لكنها كانت فرصة لأخذ القلم بين يديها، لتخط كل يوم رسالة لوالديها، وتشرح فيها الأحداث التي تعيشها. فقد تعلمت الاعتماد على النفس، واحترام الآخر، والانضباط، وروح المثابرة، وقبول الآخر. وكم كانت دهشتها، عندما عادت إلى مدينتها واكتشفت أن والديها لم تصلهما أي رسالة من المخيم. لكن، كان من آثار هذه التجربة، كونها قد تركت بصمة واضجة في مرحلة مهمة من حياتها.
وبعد تتويج المرحلة الابتدائية بالحصول على الشهادة الابتدائية، وتغيير وجهتها نحو المرحلة الإعدادية، خامرها كثير من الأسى، لكونها كانت تحسب مدرستها منزلها الثاني. فقد دخلت مرحلة جديدة مختلفة وحاسمة، حين التحقت بالثانوية المحمدية، من أجل استكمال دراستها الإعدادية والثانوية.
وفي السنوات الأولى من الإعدادي، حاولت كتابة الشعر بالفرنسية، الا أنها لم تكمل ما بدأته، فقد كانت ميولها الدراسية متجهة نحو المواد العلمية، وخصوصا الرياضيات، لكون حلمها كان مركزا على التوجه إلى العلوم الرياضية، إلا أن املها خاب برفض والدها لهذه الشعبة، التي لم تكن تدرس في مدينة القصر الكبير خلال تلك الفترة. وكانت قد استفادت من الدروس الليلية، على يد مهندسين أكفاء، نظرا لعدم توفر المؤسسة على أساتذة المواد العلمية في تلك المرحلة.
وفي السنة الدراسية 1980/1981، التحقت بمدينة الرباط، لاستكمال دراستها الثانوية، بثانوية عمر الخيام للإناث، صحبة أختها التي توجهت إلى العلوم الرياضية، وكان هذا الحدث في حياتها الدراسية فرصة جميلة ومهمة، تعرفت خلالها على تلميذات من مختلف المدن المغربية، نظرا لإقامتها بالقسم الداخلي في المؤسسة. غير أن الحظ لم يحالفها لنيل شهادة الباكالوريا، من غير أن تنهزم، لآن تجربة القسم الداخلي جعلت منها شخصا متيقظا ومنتبها.
واضطرت للرجوع إلى مدينة القصر الكبير، والى الثانوية المحمدية، مشحونة بالتحدي والإرادة القوية للفوز بشهادة الباكالوريا. وهكذا حصلت عليها في السنة الدراسية 81/82، مما خولها الانتقال إلى مدينة تطوان، قاصدة كلية العلوم شعبة البيولوجيا جيولوجيا، فاقتنعت أن اختيارها لهذه الشعبة لم يكن صائبا، حيث وجدت صعوبة كبيرة في الحفظ.
وأمام تلك الصعوبة، قررت في السنة الثانية دخول ميدان العمل، إذ اشتغلت بمصحة الهلال الأحمر، في مختبر التحاليل الطبية. وبما أنها لم تكن سعيدة في عملها، لكونها لا تتوفر على شهادة عليا، لذلك قررت بمعية والدها رحمه الله، أن تترك العمل والراتب، لتعود في تحد جديد إلى كلية العلوم لاستكمال دراستها. إلى أن حصلت على الإجازة في تخصص جيولوجيا سنة 1990.
وفي سنة1991 حصلت على دبلوم مركز تكوين المعلمين والمعلمات بمدينة العرائش، فتم تعيينها الأول بمدرسة عمر بن الخطاب (اولاد عمران) بدوار البواشتة، حيث قضت فيها سنة واحدة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة الشهيد الزرقطوني سنة 1992، حيث قضت فيها أجمل ايام حياتها، صحبة أساتذة وأستاذات كانوا ولازالوا إخوة لها، نظمت فيهم اشعارا في عدة مناسبات. لكنها التحقت في سنة 2008 بمدرسة المسيرة الخضراء، ولا تزال بها إلى الآن، رفقة أطر تربوية متميزة.
وكما كانت لها مشاركات تربوية ومساهمات ثقافية ضمن الأنشطة التربوية، نشطت في نشر كتابات شعرية زجلية، عبر المواقع التواصلية والجرائد الإلكترونية المحلية والوطنية. ونحن في انتظار صدور ديوان شعري لها، تقول عنه إنها بصدد التفكير في جمع ما جادت به قريحتها في ديوان أول لها، في المستقبل القريب.
وإجمالا فإن الصفة العامة لنصوص شاعرتنا نجاة الحبوسي، تتمثل في الالتزام بالتعبير عن رفضها لمثالب الواقع، ورسمها لواقع مختلف أجمل وأكثر إنسانية. ولنتعرف على شاعرية شاعرتنا هذه، فلنستمتع بإحدى بنات إبداعها، تحت عنوان (حوار):
سالت ابني يوما
ما الكرامة؟
قال مأوى وخبز
وصرامة
فقلت يا ولدي ما دخل
الصرامة بالكرامة؟
قال طلبت مني
فأجبت بشهامة
نظرت إليه
بابتسامة
إذن مادمت صغيرا
فأانت كريم صاحب هامة
قال حين أكبر
ألا يكون لي نصيب في الشهامة؟
فقلت هل الشهامة هي الكرامة؟
فأجاب ببراءة الآطفال
في حيرة ودوامة
ألا حين يكون لي دخل
أصير شهما ذا قوامة
وأكون جميلا
وبي وسامة
والكل يحترمني
لأني صرت صاحب فخامة
فانتبهت للوقت وقد مر مسرعا
كيف يأخذ ابني أحسن علامة؟
وقد ترك الواجب
وخضنا في حديث
أمامه السنين والأعواما
واذا بي أصرخ في وجهه
لأخمد نفسي اللوامة
فأرغمته السهر
وقال هذه هي الصرامة
حتى أعيش يوما
في كرامة.
وهكذا يتأكد لنا، أن الإرادة والتحدي والجد والاجتهاد، كلها وغيرها من العوامل، هي ما يصنع شخصية أعلام الأدب والفن والفكر والعلم، خصوصا في بيئة ضيقة لكنها معطاء وكريمة، مثل مدينة القصر الكبير العريقة.
أمينة بنونة