ها هي الثمانية والسّبعون طيفاً تتغلغلُ في الذاكرةِ ,وتبحرُ بين شغافِ القلبِ، هاهي أراجيحها تعلو بنا إلى سماءِ الوطن المقدّس , تحكي لنا مناجاةَ الكاتب والإعلاميّ (زياد جيّوسي ) في أطيافهِ المتمرّدة, من خلالِ المئتين والإحدى عشرة صفحة من كتابه, والتي عشنا بين ثناياها صباحاتهِ والمساءات, وارتشفنا مذاق قهوته اليوميّة, ورافقناه في جولاته المكوكية, في شوارعِ رام الله, وناجينا برفقتهِ أكفَّ الياسمين وعطره, وحلقنا مع الفراشات لنقبل وجنات الأزهار في حدائقها, يأخذنا زياد لنشتمَّ عبق الرّبيعِ في فصوله التي قاربت الأحد عشر عاماً, فترةً قضّاها الكاتبُ مكرها في رام الله التي يعشق, بعد أن صادر العدو الصهيونيّ حقه بهويتهُ الفلسطينيّة لإبعاده عن أيكة عشقه وهواه, وللأبد , أبى الكاتبُ أن يغادرَ وطنه بعد فقدان هذا الحق له كابنٍ لفلسطين وابن لرام الله , مثلما هو الابن لبلدته جيّوس .
نرى الكاتبَ قادراً على اصطياد الحُلم, على المعايشة معه ليلاً نهاراً, ليجتاز هذه المحنةَ, وهو يمثلُ بذلك تحايل الشعب الفلسطينيّ الأبيّ والقدرة على التأقلمِ وسط أقسى الظروف وأحلكها, وكسر كلِّ القيودِ بالحُلمِ والأمل .
رسم جيّوسي من خلال كتابه ( أطياف متمرّدة ) سلالم للصّعودِ والبحثِ عن السّلامِ النفسيّ, والتّمتّعِ بكلِ ثانية من وجوده على أرض الوطن, حيث استحضرَ ما عايشه من حبٍّ عميقٍ, وانعتاقٍ للرّوحِ في مداراته, وظلَّ الوطن الجميلُ في قلبهِ وروحه, وفي عمقِ وجدانه وأحاسيسه, فالحبُّ واحدٌ, ومن يحبُّ بصدقٍ, هو من يقدرُ أن يحبَّ وطنه بكلِّ الصدق .
سمح لنا زياد من خلالِ أطيافهِ تلك أن نجولَ في أعماقهِ, لنستشفَّ هذا الحبّ الواحد والذي لا يتجزّأ ولا يتشظّى ,حبٌّ عميقٌ لقلبِ أنثاه, كما هو الحبّ العميق لمدينة رام الله, لشوارعها, وأحيائها, ولمعالمها, لبيوتها, ولسيلِ الذكرياتِ في كلِّ زاويةٍ من زواياها, أحببناها وتعلقنا بها من خلال ما كتب ووصف وأبدع, أحببنا البيلسان ونسغه فيها, وتعلقنا بصنوبرها وكبريائه بأرجائها, عشقنا عرائش الياسمين ونقائهِ, عطرهِ, وابتسامات زهيراته, في ربوعها, سافرنا مع هذا الحُلمِ والذي طال مدة أحد عشر عاماً, وكأنَّ الحصار في الوطن لا يُعدُّ حصاراً, بل هو فترة بوْحٍ عاشها كاتبنا بكلِّ حيويّةٍ ونشاطٍ, بكلِّ فرحٍ, وهو يتحدّى هذا العدوّ ويقول له: ان تمكنت من سرقةِ هذه الأرض عنوةً, لن تستطيع أن تسرقَ الحُلم والأملَ من صدورنا, حتى وإن صادرتَ أراضينا لفترةٍ, لن تستطيع أن تصادر أحاسيسنا الصّادقة, وأرواحنا المحلّقة, نحن الأحياءُ وسط كلِّ هذا الموت الذي يحيطُ بنا, ويتربّصُ بأجسادنا وأرواحنا, ونحن القادرون على التحليقِ ولأبعد سماء, مهما طال الحصارُ , وزاد الظلم علينا.
للكاتب والإعلاميّ( زياد جيوسيّ ) باقات من الاحترام والتقدير, والمحبّة, ودمت ودام حسّك نابضاً, وقلمك سيّالاً, في حبِّ الوطنِ وعشقهِ.
بقلم: رفعــة يونس