استيقظ شعيب باكرا كعادته، توضأ وأدى صلاة الصبح قبل أن يعرج على المطبخ حيث كان إبريق الشاي الساخن الذي أعدته والدته متربعا على مائدة خشبية بالية تخترقها شقوق متفاوتة السمك والطول ـ والتي تذكره بضيق ذات اليد كلما اجتاحته نوبة تذمر أو فكر في التمرد على واقع الحال ـ وكسرة خبز بائت مع علبة زبدة نباتية في انتظاره.
ازدرد فطوره المتواضع على عجل، وضَّب أغراضه المدرسية داخل حقيبته المرقعة التي يتقوس ظهره من ثقلها، ثم غادر مسرعا نحو إعدادية الحسن الثاني التي كانت تبعد عنه بمسافة ليست بالهينة ودعوات أمه له بالنجاة من عيون الشر ترافقه.
كان درس الفيزياء عسير الفهم على شعيب وكانت صعوبته تشتد كلما حوى في طياته مسائل رياضية، فمادة الرياضيات ظلت ترهبه منذ أيام المدرسة الابتدائية التي درس فيها، فهو وباقي زملائه لم يحظوا من علوم الرياضيات سوى بالفتات لأن معلم الصف السادس اقتصر دوما على تدوين بعض العمليات الحسابية أو الهندسية البسيطة على سبورة القسم الباهتة آمرا إياهم بإنجازها ريثما يعود، غير أنه غالبا ما كان يتسلل كلص قافلا إلى المدينة تاركا خلفه أدمغة جائعة ومتعطشة لكل أنواع المعرفة لم تكن تعي وقتذاك أن إهمال الواجب المهني وخيانة الأمانة العلمية سيكون ثمنهما ضياع فرص نفيسة للانعتاق من براثن الجهل الذي دغدغ عقولهم الصغيرة لسنوات.
كانت الفرحة العارمة لا تسع قلوب التلاميذ البريئة كلما تناهى إلى علمهم لاحقا أن المعلم قد غادر أسوار المدرسة ـ والتي تآكلت أجزاء عريضة من جدرانها نتيجة عوامل التعرية المالية والغش اللذين طالا مواد بناءها ـ فقد كانت حجرات المدرسة عندهم أشبه بأقفاص إسمنتية صماء يتلقون داخلها جرعات متنوعة من ألوان التعذيب النفسي والجسدي التي دأب بعض أشباه المدرسين على توزيعها بسخاء على أجسادهم الطرية عوض تلقينهم أبجديات المعرفة، ولم يكن يضع لفرحتهم الجارفة حد سوى تدخل معلم اللغة العربية الذي كان ينهرهم ويحذرهم من مغبة إثارة الفوضى داخل حجرة الدرس وما يصحب ذلك من تشويش على بقية الأقسام المجاورة، بل غالبا ما حثهم على إنجاز تمارين إضافية محاولا تمكينهم من بعض المبادئ الأساسية في علم الحساب وحرصا منه على الحفاظ على الهدوء العام داخل فضاء المدرسة.
إن تبخيس الرسالة التربوية والتملص من أدائها، وأحيانا أخرى إهمالها تحت حزمة مبررات واهية أثر جذريا على شريحة واسعة من أبناء المجتمع المغربي خصوصا القروي منه، فبالنسبة لهؤلاء التلاميذ وولاة أمورهم لم تكن المدرسة تعني لهم شيئا عدا مزيد من الأعباء المادية التي كانت تستنزف جيوبهم المنهوكة، فضلا عن جملة الطقوس المنبوذة التي نخرت الجسد التربوي وما تزال من قبيل تلبية مآرب المعلم الشخصية من مأكل ومشرب كعربون مسبق على ضمان انتقال الأبناء من مستوى لآخر، في خرق سافر لأخلاقيات المهنة ومواثيقها.
انتقال شعيب إلى المدينة قصد متابعة دراسته مثل له تحديا ومغامرة جديدتين ـ التأقلم مع النمط الجديد لحياة المدينة ومقاومة إغراءاتها ليس أمرا هينا لمن ألف بساطة العيش بالقرية ـ وجب عليه كسبهما بأسرع وقت ممكن حتى لا يجد نفسه ذات يوم مضطرا للركض خلف قطعان الماشية، كما وقع لكثير ممن سبقوه من أبناء جيله الذين استسلموا عند أول عقبة اعترضت سبيلهم في معركتهم المصيرية والأبدية ضد الجهل والأمية فرجعوا إلى القرية خائبين منكسرين.
حرص شعيب دوما على احتلال المقاعد الأمامية من الفصل بغية الاستفادة أكبر قدر ممكن من شروحات الأساتذة وعملا بنصائح بعض قدماء التلاميذ الذين أشاروا عليه بأهمية ذلك ومدى تأثيره على تحصيله العلمي مستقبلا، وما هي إلا هنيهة حتى ولج الأستاذ قاعة الدرس فقام الجميع احتراما له قبل أن يأذن لهم بالقعود، كانت عينا شعيب الواسعتان تطارد حركات وسكنات الأستاذ بينما لم تدع أذناه صغيرة ولا كبيرة إلا وتلقفتها، بيد أنه لم يلبث على هذا الحال طويلا إذ سرعان ما انتابته لحظة سرحان ذهني غادر، وما كاد بعدها يستعيد تركيزه حتى باغته الأستاذ بسؤال حول نوع العدسات وخصائص كل واحدة على حدة. تسمر شعيب في مقعده الإسمنتي الصلب الذي كان يمتص مؤخرته، وأحس بقشعريرة باردة تغزوه من مقدمة رأسه حتى أخمص قدميه وبينما هو يستحضر معلوماته في محاولة جادة منه للإجابة عن السؤال إذ بالأستاذ ينهال عليه بوابل من السب والتوبيخ قبل أن يختتم كلامه الغث قائلا: «شتان بينك وبين الدراسة، لم لا تذهب لرعي أغنامكم؟» ثم خطا بعدها بتثاقل صوب مكتبه المهترئ مزهوا منتشيا كأنه حقق نصرا تاريخيا على عدو أزلي.
سقطت كلمات الأستاذ الجارحة على قلب شعيب الغض كحمم بركان حارقة وكادت دموعه الساخنة المختلطة بمخاط أنفه أن تخنق أنفاسه المتسارعة، وتراءت شامخة أمام عينيه صورة عمه إدريس بجلبابه الأسود المرقع بخرق متنافرة الألوان ملوحا بعصاه في وجه كبش القطيع الجامح الذي لا يكف عن ملاحقة ونطح بقية الحملان، بينما زملائه يتهامسون ويضحكون بصوت خافت في الصفوف الخلفية، ثم خيل إليه ساعتها أن عيونهم الجاحظة ستلتهمه في مشهد درامي مخيف، وتمنى لبرهة لو أن سقف القاعة هوى فوق رأسه على أن يصبح مادة دسمة للسخرية من لدن زملائه، قبل أن يلف القاعة صمت مطبق حينما أعلن الأستاذ انتهاء الدرس متوعدا إياهم بأن جميع الاختبارات الختامية ستجرى بدءا من الأسبوع المقبل.
لملم التلاميذ أغراضهم وهم يسارعون الخطى ناحية باب القاعة الذي بدا لشعيب أكثر ضيقا من ذي قبل رغم اتساعه، وانفتحت أبواب الإعدادية على مصراعيها لتلفظ جيوش التلاميذ التي أفرجت عنها حجرات التدريس دفعة واحدة، وانسل شعيب بمشقة من وسط الزحام باحثا عن نسمة هواء تعيد إليه الحياة، فأخيرا سيتنفس بعمق بعدما عاشه من هزات نفسية خانقة طوال درس الفيزياء، لكنه سرعان ما شعر بأن طريق العودة إلى البيت صار شاقا وطويلا بشكل غير معهود، وقد زكت أشعة شمس يونيو الحارقة التي كانت خيوطها تلفح وجهه الطفولي الشاحب هذا الشعور، وعبثا قاوم رغبة دفينة لنسيان واقعة فصل الفيزياء غير أنه اصطدم بكيانه الفتي المتصدع الذي لم يسعفه في ذلك فانفجر باكيا غير حافل لا بالأصوات الناشزة لأصحاب العربات من بائعي الفواكه والخضراوات الذين كانوا يتكدسون كل يوم على جنبات شارع الاستقلال ينشدون بضاعتهم، ولا بنظرات المارة ومرتادي مقهى الأنس التي كانت ترمقه في دهشة واستغراب.
اعتاد شعيب مجبرا على أن يجتاز كل يوم الزقاق الشعبي المتعرج الذي يقود مباشرة إلى بيته مرورا بإبراهيم النجار وولد غليمة البقال ـ الذي يتردد على دكانه المتهالك كلما أرسلته أمه لجلب مستلزمات المطبخ ـ وما إن أصبح بمحاذاة البيت حتى داهمته رائحة الفول المدمس الذي دأبت أمه على طهيه كل أربعاء. دفع شعيب باب البيت الخشبي بقوة، ثم رمى بحقيبة ظهره في زاوية مظلمة من الغرفة حتى تطايرت معها أتربة الأرضية وتكوم على نفسه دون أن ينبس ببنت شفة.
ـ حمدا لله على عودتك بني، فالجو حار هذا اليوم.
دهشت الأم من صمت شعيب المريب فهرعت إليه تتفحصه عضوا عضوا، كانت آثار الدموع لا زالت مرتسمة على محياه، صكت وجهها في ذهول وعيناها تتفرس في جسده النحيل، ثم تناولته بقوة إلى صدرها الدافئ وطوقته بذراعيها الغليظتين، وبحنان الأم لثمت رأسه الصغير بسيل من القبلات الحارة التي أنعشت فرائصه المرتعدة، فلا توجد في العالم وسادة أنعم من حضن الأم ولا وردة أجمل من ثغرها كما قال الكبير شكسبير، قبل أن تستسلم لمخاوفها وتطلق العنان لأسئلتها المسترسلة.
ـ خيرا يا ولدي، ماذا حل بك؟
رد شعيب بصوت متهدج:
ـ لا داعي للقلق أمي، أنا بخير.
ـ آه يا شعبي، منذ متى بدأت تكذب على أمك، هل تعاركت مع أحد الطلاب في المدرسة أم ماذا؟
طأطأ شعيب رأسه المتعب ورد بنبرة يائسة:
ـ لا شيء من ذلك أماه.
تعودت أمه أن تناديه بشعبي تدليلا له وكلما استشعرت لواقط أمومتها أنه ليس على ما يرام. فالابن الأوحد بالنسبة لأرملة في سن الثلاثين لا يمثل لها شعبا فحسب بل وطنا يحميها من أنياب الذئاب والثعالب البشرية التي تتربص لها في كل وقت وحين، لذلك كان يعز عليها أن تراه حزينا، ولم تصدق كلامه هذه المرة فناضلت جاهدة لتهتدي إلى حقيقة دموعه، ثم إنه مضى زمن على أخر مرة رأته فيها على هذا الحال، كان ذلك منذ وفاة أبيه المفاجئة التي قلبت حياتهم رأسا على عقب حيث شعيب في ربيعه العاشر آنذاك. توسلت إليه ثانية وثالثة علَّه يخبرها بما أصابه ويخلصها من الحيرة التي أرهقت تفكيرها.
ـ رجاء عزيزي، أخبر أمك بالحقيقة؟
تربع شعيب على حصير الدوم المرتوق الذي أهدته جدته لأمه عندما قررت الرحيل إلى المدينة، وحاول جادا كبح دموعه وهو يسرد لها ما لقيه على يد أستاذ الفيزياء من إذلال، لكنه ما لبث أن أجهش في البكاء حتى اغرورقت عيناه بالدموع وذهبت كل عبارات ومساعي أمه لمواساته وتهدئة روعه أدراج الرياح، قبل أن تطرق مسامعه قائلة:
ـ لا تحزن بني فإن في كل شر خير، ولسان حالها يردد في امتعاض:
متى سيدرك هذا الأستاذ وأمثاله أن المرء يعهد إليهم بفلذات أكبادهم لتربيتهم وتشجيعهم على التحصيل المعرفي وليس لتحطيم طموحاتهم المشروعة ووأد أحلامهم الوردية البريئة، بل وأحيانا التسبب لهم في أزمات نفسية حادة قد ترافقهم طوال حياتهم؟
علق شعيب على كلمات أمه وهو يغالب دموعه قائلا:
ـ أين الخير في هذا أمي؟ أخشى أن أخفق في الامتحانات فأحرم من متابعة الدراسة.
ـ أبدا يا ولدي، لا تفكر في ذلك البتة ما دامت الروح تسري في جسدي، بل ستكمل دراستك وستصبح إنسانا ذا شأن في المستقبل بعون الله.
رد شعيب والحماسة تضيء وجهه:
ـ بلى يا أمي، أريد إكمال دراستي والله. لا أريد أن ينتهي بي الأمر خلف قطعان الأغنام كما حدث مع هشام ابن جاراتنا رقية.
ـ ليس الرعي عيباً، سيدنا النبي عليه السلام رعى غنم قريش على قراريط في صغره.
تهلل وجهه فصاح:
ـ أَنت محقة أماه، فقد قرأنا ذلك العام الماضي في درس السيرة النبوية.
ـ كأني بك نسيت يا شعبي، كانت الأمنية الأخيرة لسيدي عمر رحمة الله عليه أن تكمل تحصيلك العلمي.
رد بنبرة ملؤها الحزن الممزوج بلغة التحدي:
ـ بالتأكيد أمي، لا لن أنسى ذلك ما حييت وليرحم الله أبي.
تملك شعيب انشراح صدر غريب مصحوب بارتياح نفسي عميق فمواساة الأم بلسم شاف لكل الجراح، فأمسك برأس أمه يضمه إليه ويرشفه بالقبل كرضيع جوعان يخشى أن ينفلت منه الثدي قبل أن يشبع، وأحس حينها بأمنيات والده تغازل وجدانه الطري وسمع صوتا عميقا يجتاح كيانه المحطم: ستكمل دراستك، ستصبح ذات يوم إنسانا مهما، سيدنا النبي كان راعيا وشعيب وموسى عليهما السلام .. فالرعي بلا شك مهنة الأنبياء.
مرر شعيب يديه الصغيرتين في خصلات شعره البنِّي المعقوص وأسئلة عديدة تتزاحم داخل عقله الساذج وراح يردد بصوت خفي: ترى، من أكون أنا إن كان رسول العالمين وأشرف الخلق أجمعين قد احترف الرعي في صغره؟ من يكون الأستاذ الذي اتخذ من الرعي مسخرة؟ ماذا أكون أنا؟ ماذا نكون نحن؟ سأرعى أمنيتك بكل قواي، فلترقد روحك في سلام أبي الغالي.
عبد الكبير السكتاني