واصلت دار الشعر بمراكش من خلال برمجتها الخاصة بالموسم الرابع، فتح منافذ جديدة لمقاربة الخطاب النقدي الشعري، ضمن سلسلة ندواتها، والتي تستقصي أسئلة النقد الشعري في المغرب. وخصصت الدار ندوتها المركزية، في افتتاح شهر دجنبر، لسؤال مركزي وسمته ب “وظيفة الشاعر في عالم اليوم”. الندوة التي احتضنها فضاء دار الشعر بمراكش، بالمركز الثقافي الداوديات، الجمعة الماضية 11 من الشهر الجاري، شهدت مشاركة النقاد: فتح الله مصباح، مصطفى دادا، وأسماء راشيدي، في حوار عميق لاستجلاء سمات وتجليات وظيفة الشاعر في عالم يمر بالعديد من التحولات.
وواصلت الدار، من خلال هذه الندوة، استقصاء الخطاب الشعري استكمالا لسلسلة الندوات التي برمجتها، خلال مواسمها السابقة: الشعر والترجمة، الشعر وأسئلة الهوية، مسرحة القصيدة، الدرس الافتتاحي “الشعر والمشترك الإنساني”، “الشعر وأسئلة التلقي”، “الشعر وأسئلة التحولات”، “الشعر وأسئلة التوثيق والرقمنة”، “النقد الشعري في المغرب”… وقد سعى المتدخلون في هذه الندوة، مناقشة ثلاثة محاور مركزية: 1-وظيفة الشاعر (إشكالات التحديد)، 2-وظيفة الشاعر عبر التاريخ الإنساني، 3- ووظيفة الشاعر ضمن ديدن أسئلة التحولات المجتمعية اليوم، في سعي حثيث الى تحديد سمات وظيفة الشاعر من خلال رصد مختلف التحولات التي مست وضعه الاعتباري داخل منظومة الإبداع الكوني، مع تحديد مختلف صور حضوره وتدرجها التاريخي.
واعتبر الناقد الدكتور فتح الله مصباح، أن وظيفة الشاعر تثير إشكالات عدة، وهذا راجع لارتباط وظيفة الماهية، بماهية مفهوم الشعر أساسا. كما أن سؤال “الوظيفة”، يرتبط بإشكال آخر، والمتمثل في أننا أمام وظائف، بالجمع. ولعل حضور تجارب شعرية، متعددة، وأصوات شعرية على اختلاف مرجعياتها وأنماط الكتابة، يصعب من تحديد وظيفة واحدة للشاعر، لأننا في الأصل لسنا أمام مرجعية واحدة. واتجهت الباحثة أسماء راشيدي، الى ربط الشاعر، ووظيفته، بخدمة معينة يقدمها للمجتمع. لكن، هذه الخدمة يصعب تحديدها، لأنها في الأساس تتعدد وتختلف، باختلاف المرجعيات والمواقف والثقافات. لكن، إجمالا، يمكن الحديث عن وظائف للشاعر، اجتماعية، نفسية، وإنسانية. أما الناقد مصطفى دادا، فأعاد التأكيد على مركزية الشعر، في جغرافية الإبداع الإنساني، بصفته أقدس التعابير الإبداعية وأسمى الفنون. أما سؤال الوظيفة، فيربطه بالبعد الأنطولوجي، والذي لازال يحفر في مشهدنا الثقافي الى اليوم، وهو أيضا سؤال يرتبط بماهية الشعر نفسه، جدوى الشعر في المجتمع، وحضور الشاعر في مخيالنا الجمعي. لكن وظيفة الشعر والشاعر، ارتبطت بالعديد بالإبدالات، سواء في المفهوم أو في تحديد التصورات للمقاربة.
واستعاد الأكاديمي فتح الله مفتاح، وظيفة الشاعر تاريخيا، بالعودة الى الفكر اليوناني، واجتهادات أفلاطون وأرسطو، ووظيفتي المحاكاة والمتعة، وطرد الشعراء من المدينة الفاضلة. لينتقل الى حضور الشاعر في العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر بمنزلة “النبوة” في القبيلة، وفي العصر الإسلامي والأموي والعباسي..، حيث وجد الشاعر نفسه، في خضم الصراع السياسي، والكلامي، مما جعله ينتصر لموقف على آخر. ولاحظ الناقد مصباح، أن بعض الوظائف القديمة، لازالت مستمرة الى اليوم، غير أنها وظائف خاضعة للتحولات. وقد توقف عند آراء طباطبا، الشاعر والناقد، ليركز على ضرورة النظر الى تاريخية النصوص الشعرية، بدل الحديث الدائم عن تاريخ الأدب. ومع عصر النهضة، ظهرت اتجاهات بعث النص القديم، بموازاة التجديد في رؤى والانفتاح على الخطاب الصوفي، وحضور البديعيات وظهور الحداثة الشعرية. واتجهت الناقدة أسماء راشيدي، الى التأكيد أثناء الجرذ التاريخي لوظيفة الشاعر، الى صعوبة تحديد مفهوم مفرد بحكم تغير وجهات النظر واختلاف الحقب التاريخية والمرجعيات. وهكذا انتقلت وظيفة الشاعر من، بلاوظيفة عند أفلاطون الى ربطه بالطبيعة الإنسانية كما حدد أرسطو، الى وظيفة مجتمعية عند العرب، إذ أمسى المتحدث بلسانها في السلم والحرب، وزعيمها، الى وظيفة دينية مع مجيء الإسلام، انتقالا الى وظيفة سياسية في العصر الأموي، ووصولا الى تبنيه لقيم المواطنة والدفاع عن الهوية، في العصر الحديث، وخدمة التحرر العربي، وبروز مفهوم الالتزام. واتجه الناقد مصطفى دادا، الى اعتبار الشعر حاجة إنسانية عند كل الحضارات الإنسانية، وهو ما أفرز جملة من الأنساق الثقافية أمست المعيار والسند لتقييم الشعر وجدوائيته. وظيفة الشاعر سلطة اجتماعية، لذلك كانت قصيدة عمرو بن كلثوم، نشيدا وطنيا لثغلب، وقصائد عنترة صرخة ضد العبودية، وصولا الى التعبير عن الذات/ الرسالة الحقيقية للشاعر، في سعيه للتحرر.
وأثار النقاد مصباح وراشيدي ودادا، في المحور الثالث، صعوبة تحديد وظيفة إجرائية بسمات محددة اليوم، بحكم أننا نعيش تصورات مختلفة، ونسير في خطوط متوازية وفي ظل تقاطعات متعددة، كما أن الشعر الجديد شعر رؤيوي، وأمست القصيدة الحديثة تتجاوز النمط وشكل من أشكال الوجود. الراهن اليوم، محكوم باللاتباث، وأيضا حالات التردي القيمي، حيث تم الاستغناء عن إنسانية الإنسان. وهكذا يعاد السؤال القدري: هل يمكن للشاعر أن يغير العالم؟، يرى المتدخلون، أن الشاعر يمكنه التغيير، بحكم مجموعة من الوظائف الرمزية، أبرزها تبنيه لمجموعة من القيم الإنسانية. وتنضاف وظيفته النفسية والمجتمعية ومسؤوليته اتجاه اللغة العربية وإعادة إحيائها، في عالم يمحو اللغة والهوية. قدر للشاعر أن يظل منذورا للقضايا الكبرى ولوظيفة ورهان إبداعي، ينطلق من فلسفة عميقة للوجود وللمجهول. قدر الشاعر اجتراح شعريات جديدة، وتبلور لإبدالات متجددة. أي خراب اليوم في أي نقطة في العالم، أمسى خرابنا جميعا، لذلك يطالبنا، نقاد ندوة دار الشعر بمراكش، أن نحلم كما يحلم الشعراء بعالم مختلف ينتصر للإنسان.
هل كان كوكتو محقا، حين قال: “الشعر لا غنى عنه، ليتني أعرف السبب”. لعل جزء من هذا الالتباس هو ما يفسر الاختلاف الذي ظل يشغل النقاد والشعراء الى اليوم، في محاولة القبض على تعريف أنسب لجنس الشعر، والذي ظل مستعصيا على التحديد. من هنا ظلت وظيفة الشاعر محكومة بمرجعيات قدرة الشعر، كجنس إبداعي، على تحديد وظيفته الفعلية. وهكذا تعددت الرؤى واجتهادات زوايا النظر، تحول معها الشعر الى وثيقة تاريخية واجتماعية، و وعاء اللغة ونشدان التغيير وجماهيرية الشعر والشاعر وأسئلة الحداثة والتحديث، بل أمست بحيرة الشعر قادرة على استيعاب أقانيم الفلسفة ومختلف مجالات التفكير المعرفي الإنساني.
فالى أي حد يستطيع الشاعر، أن يتخلص من وظيفته الأولى والقدرية كتابة الشعر، ليرسخ أفقا مغايرا، وعبورا نحو أسئلة الكائن والكينونة والبعد الأنطولوجي وأسئلة المجتمع، وقضايا إنسانية ومعرفية؟ هل من ضرورة للشعر وللشاعر، اليوم، في ظل سيادة الخراب الشامل، والميول المتزايد للفردانية والانعزالية المفرطة، وهو ما يدفع الشاعر على عوالمه اللغوية والتخييلية؟ أليست هناك حاجة قصوى اليوم، لتجديد وظيفة الشاعر، وتغيير زاوية النظر، مادام له القدرة لترسيخ فعل الكتابة الشعرية، كفعل “الضد”، تنشد ال”مشترك الإنساني”، وتنتصر لإنسانية الإنسان، وهل يستطيع الشاعر اليوم أن يعزز وظيفته الإبداعية، بأن يخلق وظيفة جديدة، قادرة على بلورة آمال الإنسانية في التغيير؟
شكلت ندوة دار الشعر بمراكش “وظيفة الشاعر في عالم اليوم”، لحظة معرفية للتفكير في حاجتنا للشعر وللشاعر، كحاجة إنسانية ظلت تقاوم التردي وتنتصر لقيمته الإبداعية. وهذا ما يشكل تحفيزا مضاعفا، للتفكير في الدور الوظيفي للشاعر في حيوات الأفراد والمجتمعات، على مختلف مرجعياتها واختلافها. لقد سبق ل”شيلي” أن تحدث عن الشعر ك “آلية للتغيير الثقافي وللتأثير في القيم والمعايير الاجتماعية”، وبهذا المنظور الذي ينتصر لضرورة الشعر، تنبع فكرة محورية أساسية: قدرة الشاعر اليوم، على بلورة أفقه الإبداعي الساعي الى التحول في علاقة بالإنسان، ضدا على هذا الخراب الهائل الذي يمتد على سماء عالمنا اليوم. ندوة دار الشعر بمراكش محطة جديدة ضمن استراتيجية الدار للمساءلة والتمحيص النقدي، حول الشاعر ومنجزه الشعري، وما يفتحه من أفق إبداعي. وهي محطة ستتواصل مستقبلا، بمزيد من الانفتاح والمقاربات، سعيا للإنصات البليغ لنبض النصوص ولجغرافيات شعرنا المعاصر اليوم وللاقتراب أكثر من نبض أسئلة النقد الشعري وقضاياه المحورية.
الشعر كمادة أدبية لا يتوقف نبضه ولا يتكرر..ولذا فهو دوما في تطوره…من هنا فالنقد لا يغطي فيه إلا أجزاء وليس كليته..فهو لا ينفك بوحه يطالب بالمزيد حتى لا يخفت…ومن وظيفة النقد في الظاهرة الشعرية، مرة المصالحة ومرة التقويم وأخرى التجاوز، حيث لا يقبل منه أي انحراف أو خلاف …فالأمانة الشعرية تتطلب العدول عن القراءة المحابية أو ما يسمى بالقراءة العاشقة التي لا تقدم ولا تؤخر..فتحية لدار الشعر ولجهودها في منافسة شريفة مع هيئات أخرى، في نفس الخط…ومزيدا من التألق.