إذا كان كل فرد وليد واقعه ومساهم في تأطيره، فإن حسن المنيعي هو ذلك الطود العظيم الذي دوما يقف ضاحكا أمام الوجود، ساكبا الخيرات لأهل زمانه. ولأن العالم الذي نعيشه عالم يكتنفه الغموض والإبهام، فقد فظل حسن المنيعي أن يحارب بقلمه لكي يصنع العالم الممكن عين العالم الذي نعيشه، إنه الباحث والمدرس والناقد والمترجم الذي وحد بين المعارف فكون شخصية متعددة المرامي، متوحدة الأهداف، لذا فقدت الساحة النقدية أحد جهابدة الفكر والمنطق والفلسفة وعلم النفس كان دوما يحث الطلبة على البحث في الهامش من أجل استنطاق المسكوت عنه كالجسد والحب والجنس والجنون وغيرها من التيمات التي ظلت وما زالت تنتظر المزيد إنه الإنسان الذي يحس بالطالب وبالمتعلم ويتعلم ويتألم عندما لا يريد أن يندمج في محراب المعرفة لذا فهو الإنسان الخلوق الذي لا يبخل عن كل من طلب المعرفة أو أراد أن يكون أحد الحواريين لهذه المعرفة العالمية. كلما زرته بمكناس إلا اكتشفت العديد من الأشياء التي أعرفها ولا أعرف كنهها، ولا كينونتها فهو الذي علمنا بالاقتراب من الفلسفة وعلم الاجتماع والأنطولوجيا كآلية وحتمية من أجل خلق فلسفك الحوار دون الوقوف عند عتبك التنظيم الفوضوي الذي نجده الآن في علاقة الطالب بالجامعة إن هذه الرحلة هي دخول الفرد والجماعة في نسق مفتوح مبني على علاقة سببية وغاية عقلانية لأن حسن المنيعي يحول المواقف العالمية وخاصة الفرنسية إلى نسق موضوعي يوحد بين الفكر والواقع ويرفض كل تجربة لا تستند عن مبادئ الموضوعية العلمية. فالدكتور حسن المنيعي لا يبنى عالمه كما نبنيه نحن الضعفاء بل يصوغ الموضوع المطروح كبعد مفتوح قابل أن يستوعب الشروط الاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية، إنه انفتاح على دراسة الكون بكل أسئلة التي تجعل الإنسان هو مقياس كل شيء.
كان في الجامعة ظهر المهراز يخاطب الفكر اليوناني والأشوري والفترسي وأيضا الفكر اللاثيني الفرنسي والأنجليزي وكانت غايته هو الفهم والإفهام والاستدلال لأن دراسة متونه جعلتني أستشف أنه كان أكثر ثراءا وإغراقا بأسئلة الريواقيينوالعكاكزة والصوفية والطلعين والعبثيين والوجوديين والكونيين، لأن رؤيته تحمل طاقة باطنية ستقف علة بين الذات والعالموبين الحقيقة والوهم، وتنسج بين الإبداع العقلاني والمثالي رؤية نقدية من أجل بناء العالم الممكن فحسن المنيعي كما أذكر دوما لا يركن لمعرفك واحدة بل كان يخاطب كل المعارف، كالفكر الإسلامي والفكر اليهودي والفكر الفرنسي من أجل إظهار البراعة الفنية والجمالية التي تنم عن قوة معرفية أكثر ما تنم عن قوة تقليدية إنها خسارة للثقافة العربية والإنسانية حيث نشبت المنية أظافرها في جسده وحملته بعيدا عنا فلم يبقى إلا اسمه المستعار في مخيلة الطلبة والباحثين والأساتذة البرغماتيين وليس الأصوليين لأنه دوما يعلن أنه مثقف فوكاوي لا يريد البهرجة ولا الخنوع والاستسلام، بل يوطد علاقته مع القراءة والبحث من أجل إغناء الإنسانية بأسئلة لا تقف عند عتبة السؤال الذات، بل تتجذر في الممكن بوعي لا إديولوجي ولا أرطودوكسي يبني العوالم بأسئلة تبدأ بسؤال الدهشة إلى أين يسير الإنسان؟ وما علاقة الإنسان بالفكر؟ هل الإنسان مشروع مستقبلي مفتوح؟ أم أن الإنسان هو كائن فزيولوجي غريزي؟ وما علاقة النفس بالجسد؟
كيف نقرأ الغرب؟ ما علاقة اافكر العربي بالرؤية الاستشراقية الغربية؟ أسئلة كثيرة تبني تمثلات ككائن حي ينمو به الجسد ويحافظ على وطائفه وحاجاته البيولوجيا والمعرفية، إن حسن المنيعي كان إبيستيميا مثل ميشيل وفوكو ياما وحسن حنفي وجورج طرابشي ومحمد عبد الجابري وعبد الله العروي، إنه يقف دوما أمام الأسئلة التي تثير فينا الدهشة، كبعد أنطولوجي مختلف عن أنطولوجية الفكر العربي الثابت. فالإنسان حسب المنيعي يندمج ضمن العلوم الإنسانية. نفس الشيء بالنسبة للمسرح واللغة، لأن الوظيفة التحليلية النقدية التي يباشرها المنيعي لا تقف عند وظيفة البيولوجية ولا عند صراع الطبقي “ماركس” ولا الدلالة الفرودية بل يعتمد النظام الحضري كما جسده فوكو واكتشفه جاك ديريدا في الثقافة العربية، ليس كمعطى أنطولوجي بل يخضع هذا الفكر لقطائع معرفية كما حددها كاستونباشلار، مما جعل فكر حسن المنيعي فكرا عضويا ينبثق من أسئلة الماضي والحاضر كموضوع للمعرفة الدرامية والتجريبية، فأصبح الكشف عن ماهيته وتاريخه ووجوده أمرا سهل التنازل، فهو عبارة عن نظام نسقي وخلقي لا يستطيع الباحث المتمرس أن يبدع خارج هذا المدار المعرفي لذا اعتبر المنيعي أن الإنسان يكمل إخفاءه، حيث يعيد للحكامة الوجودية أصالتها للمعرفة مقوماتها دون الوقوف عند الأخلاقي والعقلاني الكانطي (كانط) ولا الجمالي اليوناني. إن حسن المنيعي يشعر بجوهر الأشياء لا يقف عند عتبةرالمتناهي بل يرشدنا إلى الانخراط فى أسئلة الحاضر والمستقبل. وقد كان دوما يقول لي إن المسرح هو سؤال السؤال، لأنه يغلف الشخص بالشخصية ويوظف الذاكرة والحدس، والمعرفة والوعي والجسد والخيال. إنه تركيبة قارية تنظاف إلى القرات العالمية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات. فالمسرح حسب المنيعي هو تمرد عن الكائن والممكن وعن الوجود بلغة التي تسكننا قبل أن نسكنها، وبحث أركيولوجي في جداريات الإنسان وفي ماهية وجوده، فالمسرح لغة غير اللغة التي نعيشها، فيه النفسي والاجتماعي والتاريخي والديني والجسدي وهلم جرى.
إن حسن المنيعي دائما يطرح ثنائيات المقدس والمدنس ويجعل الجسد هو الرئيس الذي يرتبط بلا يقين لنا يستحضر الأسئلة حوله كانعطاف كبير لهذا الجسد باعتباره جزءا من هذه المنظومة الكونية، واحتمالية ضرورية وسيرورة لا تحد من ممارسته من حيث هو عملية وجودية وعملية مقدسة لذا تساهم بترجمته وبحوثه ومقالاته في بلورة هذا الجنس الثقافي المعرفي كطابع متنور، وكشكل متميز إنسانيا ووجوديا فردانيا وجماعيا، وعبر هذه الرحلة التدوينية ثمة إدمار الكون الممكن أثناء التعامل مع موتون حسن المنيعي باعتبارها أيقونات تسهل عملية الاستلهام الثقافي وانتشار الأسئلة على حسب روحانيات الثابت وذلك بوعي نقدي لا يركن للعزلة بل يرحب بالسياق الفكري وبالتموضع المنطقي من أجل فهم أسئلة هذا الجسد سواء على المستوى الوعي أو اللاواعي أو اللغوي الوجودي أو المعرفي الأسطوري كل هذا يتحول إلى نوع من المعرفة النسبية التي لازالت مثار النقاش بين الباحثين.
ن هذه الورقة ليست سوى عتبة عليا التي من خلالها نلج عالم حسن المنيعي يطرح الأسئلة هل أخذ حسن المنيعي نصيبه في هذا الوجود؟ ما دور المثقف في بناء الوعي النقدي بتصحيح المسار الفني والفرجوي؟ لماذا وسائل الإعلام لم تشر إلى موته؟
لماذا حسن المنيعي لم ينزل إلى الطبقة الهامشية؟
لماذا حاصر نفسه في الجامعة بين الطلبة والباحثين؟
لذا نطالب من الراسخين في المعرفة أن ينزلوا من أبراجهم العليا من أجل انخراط في عجلة التنمية التي تنبثق من البنية التحتية وليس من البنية الفوقية وهذا أملي في ترجمة المعرفة العطوية.
ما أحزن أن تسمع أحد أعمدة المسرح والنقد والترجمة والتدريس أن ينسى،
ما أحزن أن هذا الزمن المعرفي ينكسر أمام أكذوبة ثقافة سياسوية،
ما أحزن أن يصير المثقف وحيدا يعتصر وردته وحيدا ويموت وحيد،
ما أحزن أن تدرف الدموع حول مؤسس النقد الجامعي والمسرح الجامعي بالمغرب.
ما هكذا يحمل النعش لأننا كباحثين لازلنا نحمل مشعل برومثيوس من أجل غرس اسم حسن المنيعي في إبداعنا.
الدكتور الغزيوي أبو علي / فاس