الرئيسيةأخبارالاحتفاء بالأديب محمد الأشعري وبتوقيع روايته الجديدة “العين القديمة” بالمكتبة الوطنية

الاحتفاء بالأديب محمد الأشعري وبتوقيع روايته الجديدة “العين القديمة” بالمكتبة الوطنية

في ظهور جديد وبلباس أدبي أنيق ظهر الأستاذ والشاعر المغربي المثخن بالآلام والآمال محمد الأشعري برواية جديدة عن منشورات المتوسط بايطاليا كرس فيها المبدع لغته السردية الشاعرية الساخرة التي سبق وان غازلها وافتتن بها ، ذلك أنها لم تكن روايته الأولى ولكنها تحمل التوقيع الفني للكاتب … انه كاتب ملتزم أدبيا وإنسانيا وطبقيا يقف إلى جانب حق الإنسان الباحث عن والوجود في الحياة والكرامة ، يعانقه بشعره وسرده ويسبح به في فضاء الحرية وبين الشعارات الثورية والإصلاحية و.. و يفضح بكتابته كل ألوان الفساد والاستبداد والتخلف والردة التقليدانية .
إن سرده وشعره ولغة سرده الشعرية تأخذ من المعاناة والآلام مادة إبداعية يعكس بها مشاعر هذا الإنسان المنكوب حتى يفتح عينه على حياة جديدة ولو بعين قديمة .
الرواية الجديدة (العين القديمة) هي محاولة لتطوير الكتابة السرد ية نحو لغة شاعرية تمحو فيها كل الحواجز الفنية فتقترب الرواية نحو محراب الشعر لتغترف منه فتكون بذلك حركة جديدة لتأسيس جنس أدبي شاعري الخطاب و سردي الكتابة .
والأشعري يستبعد فكرة الارتحال من الشعر إلى الرواية لان الأجناس الأدبية ليست جزرا منفصلة بل مجالات إبداعية متبادلة التأثير وان كان الأشعري لا يتردد في القول بان الشعر يعاني حصارا و إجحافا وحيفا رغم انه جوهر الأشياء في الأدب والحياة .

(العين القديمة عروسة المكتبة الوطنية)
شهدت المكتبة الوطنية بالرباط في احدى الامسيات الثقافية لقاء وحوارا أدبيا حميميا ، حضره مثقفون وأدباء ونقاد ، وأطر أشغاله ثلة من النقاد المغاربة الكبار من أمثال : عبد الفتاح الحجمري،عبد الحميد عقار، شرف الدين ماجدولين،إضافة إلى مدير المكتبة الوطنية وصاحب الرواية المحتفى بها الأديب الشاعر محمد الأشعري، تناول الجميع في هذا الحضور الأدبي الباذخ والمتميز كلمات ترحيبية وقراءات نقدية تشريحية للرواية .

كلمة مدير المكتبة الوطنية :

ألقى مدير المكتبة الوطنية في بداية هذا اللقاء كلمة ترحيبية في حق كل المبدعين المغاربة ، واعتبر انه بفضل الإبداع أصبحنا نتقارع بأعناقنا الى عنان سماء الأدب والفكر والمعرفة،وتربع مبدعونا في أعلى سلم المراتب العلمية ونالوا جوائز أدبية عالمية ، ولا أدل على ذلك من حصول المحتفى به اليوم على جائزة البوك العربية سنة2011.
إن الحديث عن هذا الصرح الثقافي الجميل الذي هو المكتبة الوطنية يعود الفضل في انجازه وإخراجه إلى أديبنا سي محمد الأشعري فهو من مؤسسيه وبانيه لما تولى مسؤولية الشأن الثقافي في حكومة التناوب السياسي ، وكان من المهندسين لهذا البناء العمراني الشامخ ، و أضاف السيد مدير المكتبة الوطنية أن من مهام هذه المؤسسة الوطنية حفظ وصيانة الإنتاج الفكري والأدبي المغربي، وكذا التعريف به عن طريق إعداد بيبلوغرافيا وطنية والتي سيعمل العديد من الباحثين على إخراجها لتكون رهن إشارة الجميع مثقفين وباحثين و مبدعين وطلبة وغيرهم .
إن الاحتفاء بالإنتاج الفكري المغربي ، وتقديمه للجمهور من خلال هاته اللقاءات وغيرها،دفعت مدير المكتبة الوطنية إلى طرح فكرة وضع برنامج سنوي كفيل بترسيخ ثقافة الاعتراف والتباهي بمنتوجنا العلمي والأدبي ، دون مركب نقص أو ادعاء زائف، بدأه اليوم الأستاذ محمد الأشعري وسيستمر مع كل الأسماء المغربية من كافة الاتجاهات والإبداعات الفنية الشعرية والروائية،والقصصية والفلسفية والعلمية ، همها الاحتفاء بالإبداع المغربي، وإحلاله المكانة اللائقة به من خلال التعريف به، وخلق فضاء للحوار وتبادل النقاش الفاعل.

مداخلة عبد الحميد عقار:

“العين القديمة”رواية من طينة أخرى، حتى بالنسبة للسجل العام من الروايات لدى الأديب محمد الأشعري، إنها رواية مفعمة بعبق الفن والجمال، مسكونة بالبحث والتساؤل، مهووسة بإعادة قراءة وتعريف الماضي القريب، لأجل إعادة بناء صور مغايرة له مع إعادة تأويله، وبإعادة الصياغة الجمالية للموضوع او الموضوعات التي اثارها المبدع ، نسيجا ولحمة لهذه الرواية، إن هذه الرواية الجديدة مشحونة بالحوارات الخارجية والباطنية ، وبوجهات نظر متصارعة متصادمة أحيانا، أليفة(من الألفة) وليس من المألوف، أليفة مأنسنة بالحياة والوجود أحيانا أخرى، ساخرة في تهكم أو دعابة بمرح أو سوداوية تارة، المحفز دوما يقول ما لم يقل روائيا بعد، وحتى غير الروائي، ما لم يكد يقل، أو ما لم يقل البتة.
“العين القديمة” رواية مركبة، بقدر ما تدهش تمتع وتفيد،و بقدر ما تسائل وتشكك وتفكك وتعيد النظر وتتفكه، تستمتع هي ذاتها، يستمتع شخوصها بحكاياتهم، وبحكايات الآخرين، ومن خلال ذلك تسلط الرواية أضواء كاشفة، وتضع نقط استفهام، حول معنى وقيمة مكانتنا التاريخية والاجتماعية، لحقبة تمتد من الستينيات الى يومنا هذا، وذلك دونما تعقيد ولا عقدة من شخوص الرواية ، وساردها يسير في اتجاه مساءلة ما في وجودنا من أعطاب وعجز وانتظار ية .
“العين القديمة” رواية مركبة مفعمة بالجمال ، بالاحتمالات وبالفن وبالمعرفة، مفتتنة، مدهشة، بشخوصها المشبعة بالحياة والحيوية،النابضة بقلق خلاق، يحول الهزيمة أو آثارها والانكسار أو بقاياه يحوله الى حكايات للعطب والعجز والانتظار، أمام جبروت قدرية السلطة وأحاديتها، يحول ذلك الى بحث لا يتوقف عن أصل الحكاية، عن امتداد الحكاية، عما تخبؤه، وعما توحي به، وعما تحتمله وهو الأبقى.
“العين القديمة” رواية من زماننا وعن زمننا، بحثا عن غدنا المحتمل،هذا الذي يريد نهر الحكاية ان نعبره، وأن نستلذ به، وأن ندركه في أبعاده، واحتمالاته ،في هذا النهر تسبح شخوص كثيرة ومتنوعة مليئة بالنشاط، مليئة بالسجال،مليئة بالجدال، يغطي مساحة زمنية تمتد من ستينيات القرن الماضي، وتعبر إلى سبعينياته و ثمانينياته.. إلى الألفية الثالثة (اليوم) ، هذه الشخصيات كلها تبحث عن شرطها الإنساني الغائب، يحفزها الغد، وتجعل من بعض هذه الشخوص مرايا متقابلة، ومن نظراتها تتقاطع تارة، وتتصادم تارة أخرى، تتباين في الغالب بخصوص ذاتها وبخصوص العالم من حولها، وبخصوص غيرها وما تفكر او تعيش به وله، ووراء كل ذلك بخصوص هذا الذي أسميته الغد، لذلك تتعدد امكانات قراءة هاته الرواية، وإمكانات تأويلها وتحليلها،وتتعدد المفاتيح التي يمكن من خلالها الولوج الى هذا العالم المركب، دون تعقيد، هناك سلاسة روائية أدبية إبداعية، بالغة الشغف، وبالغة الدلالة، وبالغة الجاذبية، للاندماج في هذا العالم، ومن بين ابرز هذه المداخل: الازدواج، و هو لا يفكر في الازدواج من حيث هو عقدة يهتم بها التحليل النفسي، أو تهتم به التعقيدات البشرية..الازدواج من حيث القيمة، ومن حيث الدلالة ، لأن الشخصية الرئيسية او إحدى الشخصيات الرئيسية في هذه الرواية(مسعود) والتي يدور حولها مجال هذه الرواية، هي شخصية ابتكرت هي لنفسها صورة آخري، ابتكرت لنفسها ما تسميه مرآة، او من تسميه حالة، من خلالها يتم هذا السجال، ويتم هذا الجدال الذي لا ينقطع في الرواية، لكن متوسلا بما هو جمالي وبما هو فني، هذا الازدواج الدلالي و ألقيمي يشكل المدخل الرئيسي لفهم هذه الرواية أيضا، نحن لسنا أمام رواية سردية، تسرد علينا ما يسرده السارد، أو تسردها الشخوص، إننا أمام رواية تنبني، تتخلق، تتشكل أمامنا ، إذن نحن أمام ما يمكن تسميته، برواية مسرح، أو برواية مسرح إبداعي، إبداعي درامي، لأن كل شيء يصنع، ويصاغ أمامنا، ونحن نقرأ، و نتابع، و نسترجع ما قراناه.
أيضا من المداخل: تقاطع النظرات، نظرات تلتقي فيها عوامل متباعدة متباينة، ولكن جامعها الإنسان الباحث عن شرطه، الإنسان المتمسك بشرطه، المتمسك بآخره الذي يصنعه هو، ولا تصنعه له الظروف أو الحياة أو القوانين أو ما يشبه ذلك، ذاك هو(مسعود) ، انه هو من صنع آخره لكن يرى فيه ليس فقط ذاته بل مثل ما قلنا سابقا تلك المساحة الزمنية الممتدة من الستينيات إلى آن الكتابة، وإلى آن القراءة.
و من المداخل الأخرى لقراءة هاته الرواية ، تنامي تسلسل الأحداث ذات القيمة، وذات الأهمية الكبرى التي خلقت هاته الشخوص، وخلقت قبلها أجيال من المغاربة ومن غير المغاربة، أحداث الستينيات ولاسيما انتفاضة منتصف الستينيات ، وأحداث السبعينيات بكل ثقلها وأثقالها، وبكل أمجادها وخسارتها، ثم انتفاضة الخبز بالدار البيضاء في 20 يونيو1981 وما تلاها من أحداث العهد الجديد و عهد الألفية الجديدة، إن وراء كل ذلك نجد مدخلا رئيسا أساسيا ربما يوجد في كل روايات الأشعري، لكن هنا يأخذ وجها آخر و طبيعة أخرى، انه التمجيد للحياة، والتمسك بها ، و كل الشخصيات رغم كونها تعيش في أجواء الإحباط، و في أجواء الهزيمة،و في أجواء مراجعة الذات، إلا أنها لا تتنازل قيد أنملة عن حقها في الحياة ، عن حقها في الوجود، وعن حقها في الاستمتاع بهذه الحياة.
إن إعادة خلق هذه الحياة، شيء بالغ الأهمية في الرواية، ويستحق أكثر من تحليل، وأكثر من وقفة، و هناك مدخل ضمني ترد الاشارة إليه سريعا، لكن تفاصيل الرواية، والرواية تفاصيل طبعا، أي رواية هي تفاصيل على التمسك غير المحدد بالشرط الإنساني، حيث المنع، ممنوع ، مما يعني أن لاحق لأي سلطة تقول الرواية سواء أكانت دينية ، أم سياسية، أم مالية، في منع ما يريد الانسان بفطرته، أنه من صميم شرطه الإنساني، وأنه جزء لا يتجزأ من حياته.
إن الدلالات العميقة لهاته الرواية تستعدي بالفعل احتفالا وابتهاجا، بمثل هذا النص و بمثل هذا الجهد الابداعي العميق.
“العين القديمة” هي نقلة أخرى في تجربة الكتابة بالعربية، هنا في المغرب ، وفي العالم العربي، وحيثما كان هناك من يتحدث بالعربية..بالفعل نقلة ، لا تضيف فقط إلى رصيد الأديب الشاعر الروائي سي محمد الأشعري، بل تجعل الاضافة تمتد لتشمل الابداع الروائي كما هو، وكما هو منشود، الإبداع الروائي كما يمكن أن يصبح هو الأبقى، وهو الغد، فتحية للأشعري، وهنيئا للقراء بالعربية في المغرب وفي العالم العربي وفي عالم قراء اللغة العربية .

مداخلة الناقدعبد الفتاح الحجمري:

الحكاية في هذه الرواية الشيقة حكايات، مليئة بالعبر، وغنية بالعبارات، يتوافق معناها ومبناها، وينسجان مساحة يتطابق فيها الشعور باللاشعور(حتى وإن كانت هاته العملية مستحيلة من ناحية التحليل النفسي)لكن وفي هذه الرواية تصبح ممكنة، ولذلك تتجاوز مصائر الشخصيات، وتتقاطع منذ أن أيقظت الرغبة في القتل (مسعود) ذات يوم ،لقد حاولت – يقول الناقد – أن أفهم لماذا أخبرنا السارد بذلك في الجملة الافتتاحية من هذه الرواية(مسعود) وهو لم يعرف عنه أي انجراف نحو خصومات، بل إنه دوما كان يهتم بالأشياء أكثر مما يهتم بالأشخاص، حتى وجد نفسه موزعا ذات يوم بين وجودين : وجود سريع – هكذا يسميه – يجعلك تمر في حياة الناس مرات عديدة حتى يدركك الموت، ووجود بطيء يجعلك لا تمر في حياة الناس سوى مرة واحدة، فينسون أنك تعيش بينهم، ثم إن هذا الإحساس بالوجود آت من أن(مسعود) شطر نفسه شطرين فينقسم إلى شخصين: شخص مادي يعرفه الناس بالاسم والملامح، وشخص افتراضي لا يعرفه أحد سواه، هذا الآخر قضى بصحبته (مسعود) سنوات مديدات، كان..(مسعود) يضحك من النزوع الدائم لصديقه للخروج من وجوده الى وجود آخر، وهو الذي ابتكر له اسما حركيا، لم يعد يعرف إلا به”الآخر”، الذي لا يفارقه، تقاسم معه تفاصيل حياته في الدار البيضاء، في فرنسا، في روما، وتعرض كذلك هو الآخر لانتكاسات، بحيث الآخر له حياة خاصة به، تخلى عن “مليكة ” ومشاعره اتجاه “مارية ” الخادمة الفيليبنية ، ليست واضحة تماما ،وبحثه الدائم عن حب مستحيل مع ” فتيحة “، ليجد نفسه في نهاية المطاف،يعيش حبا جارفا مع ” فتيحة ” ، لكن هذا الحب ظل غامضا طوال الرواية، و إن هذه الانقلابات التي عاشها الآخر، هي حياة الآخر، زاد من حدتها خلافه الطويل مع شقيقه الأصغر، وهو محام قضى خمس سنوات سجنا بعد تحريره لعقود مزورة، قبل ان ينتهي به الأمر مقتولا بثلاثة رصاصات في الرأس، وهذه الأخرى هي حياة الآخر، فمن هو “مسعود”؟ “مسعود”رجل ستيني تكبد العديد من خساراته في حياته، ماتت أمه وهو ما زال صغيرا في السادسة من عمره، الامر الذي اضطره الى مغادرة قريته الصغيرة، جنوب المغرب (اشتوكة ايت باها ) صوب الدار البيضاء للعيش هناك مع عمته.
“مسعود” هذا عاش طفولة قاسية، تجمع بين اليتم، لكن شيء اقسى من اليتم في تقديري، وعلى الأقل في الرواية، تمنحه مكانا وموقعا في أساسيا ، انه التحرش الجنسي المستمر من طرف قريب من أخوال أمه، كان يعيش في المسجد، و كان إماما فيما يفترض….. يكبر “مسعود” يتخرج من كلية الحقوق يذهب الى فرنسا، ثم يصادف ثورة(ثمانية وستون) لكنه في هذا الخضم اختار أن يكون ثوريا صامتا، ويساريا في باريس حيث هناك سيتعرف على ” ايلين ” زوجته ، ويولد معها أولادا ، وأقرب أولاده كانت”منى”، هي أقرب إلى قلبه، ولدت في الدار البيضاء، وكانت مهووسة بالبحث في حياة والدها البعيدة، وزاد من هوس البحث في ماضي والدها، تلك الحكاية التي أسرت بها إليها والدتها قبل وفاتها،، من أنها ربما قد تكون قد استبدلت بمولود آخر، ووالدتها تركتها في حيرة من أمرها، وسافرت والدتها الى الفيتنام ، وهناك توفيت ، وبقي السر عالقا وشكلت “ايلين ” في حياة “مسعود”خسارة كبيرة، حينما توفيت، بل كانت فاجعة و حركت كيانه، حتى أصبح شخصا غارقا في هذا الشعور.
في هذا الموقف شيء من فلسفة ايمانويل ليفيانس خاصة في كتابه “دوليفازيون ” هذا الفيلسوف كان يفهم العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المقابلة التي تشدد على البقاء في حالة انفصال بين طرفين . إن الاتصال يتحول إلى ذوبان وانمحاء، والمقابلة تتحول الى علاقة تطابق بين الأنا والآخر، وبالتالي لا يعود هناك لا أنا ولا آخر، بل مجرد شيء واحد هو المثيل أو المطابق، وتلك فلسفة ليفيانس وقد وجد الكاتب صداها موجودة في هذه الرواية.
وفي ختام كلمته يرى الكاتب أن سيرة”مسعود” التي حكاها بشجاعة هي بديل على ما عاشه من خيبات وانكسارات ، وانه ظل يعتقد أن الحياة التي نتصور أننا نرتبها وفق مشيئتنا، لابد انها تضحك علينا، وترتب لنا شيئا لا يخطر على بال، وأنها مليئة بالأشياء السخيفة، التي تقدم نفسها كمنجزات وأنه يلزمنا لكي نظل واقفين لمواجهة الحياة كثير من الغفران وغير قليل من التجاوز.

مداخلة الناقد شرف الدين ماجدولين

يبدأ الكاتب مداخلته بأنه سعيد بأن يقدم لنص روائي ، جذاب، ونص بعمق معنوي، للروائي والكاتب محمد الأشعري، الذي عاش مع نصوصه في لحظات صدورها، كما عاش معها فنيا وأدبيا ولغويا .
إنه نص مختلف ، ونص استثنائي في مسار الكتابة الروائية للأستاذ محمد الأشعري، لذا لم يقم بتلخيص الرواية التي تبدو معقدة لأول وهلة، لكنها تقوم على لعبة وجود شخص له وجهان: وجه حقيقي، ووجه افتراضي.
تقدم لنا الرواية في الفصول الأولى مجموعة من الإشارات ومجموعة من الإيحاءات، لأن هذا الشخص هو شخص واحد، منذ الجملة الأولى، ثم شيئا فشيئا يكتسب هذا الشخص الذي هو الآخر وهو ليس له اسم يكتسب حياة وملامح وعائلة ومسارات مختلفة عن مسارات البطل الرئيس الذي هو “مسعود”.
إن الرواية تقوم على هذه اللعبة المستندة إلى ثنائية أو انشطار في شخصية واحدة ، وهي رواية من الروايات المغربية النادرة، التي تستند إلى حدث واقعي ثم استثماره ببراعة وهو حدث جريمة قتل ملياردير عضو مجلس النواب مقيم بالدار البيضاء، هذا الحدث أو هذه الجريمة الحافلة بمضامين درامية، سوف يتم استثمارها في الرواية بشكل يعيد خلق عوالمها، جنبا إلى جنب مع عوالم مجموعة من الشخصيات التي تؤثث المغرب الراهن وتعود لقراءة هذا المغرب انطلاقا من ذاكرة مما وقع منذ الاستقلال إلى اليوم، هي إذن رواية كتبت بذاكرة عين قديمة، هذه العين التي ربما من أكثر المجازات المتعلقة بالحقيقة تلك التي تَنعت الرواية بأنها عين انتهت ومضت ألى مستقرها، فالعين الروائية هنا، هي التي تضع لنا احتمالات في الرؤية، ولا تكون العين حاسة للمنظور إلا باحتمالات قليلة داخل الرواية.
في رواية”العين القديمة”لمحمد الأشعري، تمت شخوص وأمكنة ونكهات وأساليب كلام وأوهام وأنماط سلوك، انتهت بمنطق الغياب الذي لم يعد بإمكانه التجلي إلا بوصفه ذكرى، تلتبس على البصر، لهذا كان منطق الرواية ومآلها مرتكز على المخاثلة في التعيين وفي التبيين، منذ الجملة الأولى حيث يقول السارد:”أيقظته الرغبة في القتل .. كان مستلقيا على ظهره في ظلام الغرفة، ولكن الشخص الذي أيقظته رغبة القتل كان واقفا ، لا من هو هذا الشخص في النهاية، هل هو الذي هو ممدا على السرير؟ أم هو الشخص الواقف؟، هو شخص واحد، استيقظ “مسعود” البطل على حقيقة انشطار التي لا تعني شيئا إلا ما تعمى عنه عيون وبصائر الآخرين،
ذات هي عينها كآخر تتشكل على امتداد المقاطع الأولى من الرواية بما هي شخصية تستبطن وعيا يميز بين حقيقتها وإدراكها لما يجري لها، تنتابها على امتداد المبنى الروائي رغبة في القتل لمن لا يتحلى بوصفه شخصا ثاويا في الذات العميقة ، ثم محاورات تتنامى بين أصوات توهم بالثنائية، بين عين وذات ،وبين ذات وآخر، بين ما لا يحتمل المنظور المضمر، إلا حوارية حُلُمِيَةِ يعيد فيها التخيل الروائي و بسط أعماق شخصية تستعصي على الرؤيا.
إن الرواية هي فن إنتاج النظائر لما لا ينظر إليه إلا بوصفه واحدا، يعني البطل “مسعود” منذ البداية، أنه يسلك مسارا موحشا ترتد فيه الصور والمفردات والمواقف الى قاعدة مفردة هو شخص وحيد، ولهذا له اسم ثان في الرواية هو”وحيد” اسم ثان بتسمية اخرى ينعته به السارد، بل وهو كذلك له اسم ثالث يرد في سياق التهكم، وهو” كاغط ” يخشى البلل لا يريد أن ينصهر مع حَيَوَاتِ أخرى، يخشى البلل بمياه الأوحال ، لهذا لن يكون توحده الممتد إلا ذريعة للعين الروائية التواقة الى النفاد بعمق مستعينا بثنائيته عن الآخرين.
في مقطع عابر من الرواية يتحدث السارد عن فندق لينكون في الدار البيضاء العقار الذي يختص بمعنى ما مآل مدينة كولونيالية ممدودة للزوال، كان هذا الفضاء مأوى لمتشرد وحيد مثل “مسعود” تماما وله أيضا نظيره الذي لا يكون إلا ذاته عينها ، وفي لحظة ما يقول السارد ما يلي:( لقد كان “مسعود”حتى الآن شخص آخر وها هو شخص غريب يقتحم حياته، كما كان المتشرد يقتحم ابهاء فندق لينكون لكن الفرق يقول “مسعود” لنفسه محتلا ،إنني لست خرابا لست بناية سرقت أحشاؤها، وحُضرت على مهل للانهيار هو الاحتلال…هو الاحتلال الهمجي لشخص مليء بالحياة والرغبات من طرف شخص رمادي يكاد يكون حجرا بركانيا منطفئا منذ الآف السنين، وعلي فقط قتله، لا مكان لشخصين بهذا التنافر كله في حياة واحدة..) لكن يبدو أن العكس هو ما وقع حيث يثبت التخييل السردي أن تمت احتلال لذات من قبل طيف ،ثم من قبل ضمير، ثم من قبل صوت لذات ضمنية ……. وهكذا تُولد من الآخر نظائر حياتية ل”مسعود” تعبر عتبات وجوده بالدار البيضاء، وبباريس، وبروما، ثم عشرات العتبات المتراسلة الآخذة معها حَيواتها من ثورة الطلاب بفرنسا الستينيات إلى ما بعد مغرب سنوات الرصاص، ومن الدار البيضاء المتاحة الباذلة لرغبة العيش إلى مدينة الاغتناء عبر جريمة، مدينة الرعب العابر والممتد، تلازم يوحي بالتوحد والتناقض في آن، ففي النهاية توهم المقاطع بأن الشخص موجود وغير موجود، له شق مادي يعرفه الناس، وشق لا يعرفه احد سواه، هو كما يعبر”مسعود” هو نسخته المضادة إنه هو نفسه معمولا بشكل مختلف، وبقدر ما تمنح لعبة الآخر فرصة التغلغل إلى قرار الشخصية ل”مسعود” المركبة وتشريع طبعها وسلوكها المجبول من طيب أمكنة وأوقات وقيم تُستدرج اللقاءات والحوارت الى رقابة عين ولسان ثالث ذلك ما يتضح من تدخلات الآخر في لقاءات “مسعود” وهيلين زوجته السابقة وزوجته المتوفاة التي سوف يفقدها في حادث في فندق في الفيتنام ، أو مع ابنته “منى” ،ومن تعليقاته واعترافاته ل”مسعود” بهواجسه أي اعترافات الآخر”مسعود” بهواجسه عن الموت وعن الحب وعن الجنس وعن النبيذ.

كلمة الأديب والشاعر والروائي المحتفى به  محمد الأشعري

بداية شكرا للسيد مدير المكتبة الوطنية بالرباط على الاستضافة، وشكر للأصدقاء والاخوة: عبد الفتاح الحجمري وعبد الحميد عقار وشرف الدين ماجدولين.

ـ الازدواجية الموجودة في شخصيتنا المغربية، بشكل فاجع أحيانا، فالازدواجية هي الرياضة الوطنية الأولى في المغرب.
في الواقع لا ينبغي لي أن أتحدث عن الرواية، لكن لابد أن أشكر الإخوة الذين تحدثوا عنها، وأتأسف في نفس الوقت لأن مع جراحين ماهرين من نوعهم، لا يبقى هناك سر بين الكاتب والقارىء، وأنا كنت في لعبي الروائي أحاول أن أحتفظ لنفسي بأسرار خاصة حول الشخصيات، وحول المسارات التي قطعتها،وأن أترك دائما ظلا من الشك عند القارىء، هل الآخر شخصية حقيقية أم شخصية افتراضية، لا أجزم بشيء في الرواية، هل الحكايات تنتهي أم لا تنتهي؟ كل هذا يدخل في صميم اللعب الذي يشكل جزءا أساسيا من الكتابة الروائية، وهو الذي يفترض فيه أن يبني لذة النص أو الاستمتاع بالنص، إذا كان هذا الأمر ممكنان مع ذلك فأنا لا أنكر أن كثيرا من القضايا التي أشير إليها كانت حاضرة في ذهني أثناء كتابة الرواية، أنا مثلا مهتم كثيرا بالازدواجية الموجودة في شخصيتنا المغربية، بشكل فاجع أحيانا، فالازدواجية هي الرياضة الوطنية الأولى في المغرب، يوجد في قلب كل واحد منا شخص محافظ، تقليدي، رجعي، وشخص تقدمي، يساري، حداثي، يوجد شخص متدين، وشخص متمرد، يوجد شخص ورع فاجر، يوجد شخص نظيف بين مزدوجتين، وشخص وسخ، في كل الأوضاع التي نعيشها يوميا، نعيش تحت ثقل هذه الازدواجية الخطيرة التي تلغم حياتنا وحتى مصائرنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي كثر من الأحيان يندهش الواحد من امكانيات التعايش لشخصيات متنافرة داخل شخص واحد، وربما النظام السياسي هو أكثر تغييرا من هذه الازدواجيات المتاسكنة باستمرار والصادمة في كل الأحوال، هناك أيضا دائما شيء يستهويني ان أهتم به وأتابع تفاصيله، هو هذه الرياضة الوطنية الأخرى التي هي دائما الوقوف في منتصف الطريق، نحن في مجتمع لايحب أن يكمل الأشياء، لانكمل شيئا نبدأه، ونخلق حوله حماسا وكلاما وخطابا، ثم نتركه بعد قليل لننصرف الى شيء آخر، وهذا الأمر يبقى، لا احتاج إلى رسمه أمامكم، فأنتم مثلا تعرفون مثلا حكاية الانتقال الديموقراطي الذي نعيشه بشكل دائم، وكأننا سنبقى سجناء في الانتقال الى الأبد لن ننتقل أبدا، وكل جيل سيرفع شعار الانتقال يجب أن ننتقل، وينتقل الناس من بيوت الى أخرى، ومن مدن إلى أخرى، والديموقراطية لا تريد أن تنتقل نهائيا، منذ أكثر من ربع قرن، ونحن نراوح من نفس المكان، نريد أن نراجع حياتنا، أن نصلح حقلنا الديني أن نصلح….لكن كل هذه الأشياء نبدأها بحماس كبير وفيما بعد نحولها هي نفسها الى إرهاق جديد، نرهق به ذاكرتنا وحياتنا، هناك شيء ربما كما لاحظ عبد الفتاح الحجمري، ربما له علاقة بالتحليل النفسي أكثر مما له علاقة بالتحليل الاجتماعي أو الإقتصادي وهو هذا الإحساس الدائم بأن الواقع، وحتى هو واقع مهادن ومسالم، وربما لايكون واقعا جميلا في بعض الأحيان ، لا يلبث أن يتحول الى كابوس، هذا الأمر للأسف الشديد الذي حملوا في تاريخهم الشخصي الفردي أو الجماعي، الذين حملوا أحلام التغيير ، وأحلام الإنتقال من وضع الى آخر، كلهم من أجيال مختلفة يعيشون في اجسادهم وفي أرواحهم ندوبا عميقة في هذا التحول السريع، من شيء يبعث على البهجة الى شيء كابوسي، ولذلك اخترت المناخ الكابوسي في الرواية للتعبير عن ذلك.
الشخص الذي يعيش من بداية الرواية الى نهايتها يعيش تحت تأثير نزال أسطوري مع وحش أحيانا، يبدو شخصية حقيقية، وأحيانا يبدو مجرد رهاب يحوله إلى مطارد مستمر، هذا الشخص في الواقع يعيش هذا الكابوس باسم نفسه، لكنه يعيشه باسمنا جميعا، لأن في حياتنا المشتركة دائما هناك حضور هذا البعد الكابوسي، لتحول الأشياء وتعقدها، حتى الأشياء التي نتخيلها في لحظة ما أنها عتبة لميلاد جديد يتحول فجأة الى باب مفتوح على أشياء مرعبة، لا أريد أن أثقل عليكم بتحليل ربما لا يملك من حصافة النقاد ما يجعله جديرا بالاهتمام والاستماع، اشكركم جميعا على حضوركم أتمنى أن تلتقطوا اشيئا من المتعة الفنية والأدبية في هذه الرواية، وإذا حصل فإنني ساكون سعيدا أنني كتبتها من أجلكم.

(مدير المكتبة الوطنية – شرف الدين ماجدولين – محمد الأشعري – عبد الحميد عقار – عبد الفتاح الحجمري)
وفي الختام:
من خلال هذه القراءات النقدية استطاع هؤلاء النقاد الكبار كشف أسرار هذا النص الروائي من ( داخله ) ..من بنياته الداخلية ليصلوا إلى ( الخارج ) أي إلى كشف الخارج فيها ، كشف التاريخ ، داخل جغرافيتها وبالتالي إلى تفسيرها وتقييمها كما يقول محمود العالم ,,انه في هذا التحول يعتبر ” الخصوصية الخاصة ” للأدب تكمن في ” بنيته ” أو “هيكلته أو ” صياغته ” أساسا .
ولهذا لا حظنا من القراءات النقدية الثلاث تحليلا لمختلف البنيات والعمليات البنائية الداخلية في النص الروائي بهدف استخلاص الدلالة العامة لهذا النص الروائي وتفسيرها وتقييمها في إطار السياق التاريخي الأدبي والاجتماعي على السواء .

محمد الأشعري:
محمد الاشعري شاعر وروائي مغربي، ولد في مدينة زرهون المغربية سنة 1951،وقد بدأ في نشر قصائده في مطلع السبعينيات وصدر ديوانه الأول “صهيل الخيل الجريحة” سنة 1978. ومنذ ذلك الحين صدر له العديد من الكتب الشعرية وترجم منها إلى لغات عديدة. ترأس اتحاد كتاب المغرب، وعمل في الصحافة وترأس تحرير عدد من الملاحق والمجلات الثقافية.
انخرط في العمل السياسي والنقابي، وخاض التجربة الانتخابية التي قادته إلى البرلمان ثم إلى الحكومة ليصبح وزيرا للثقافة والاتصال من سنة 1998 إلى 2007.
نشر مجموعة قصصية بعنوان “يوم صعب“، وأربع روايات هي “جنوب الروح“ و“القوس والفراشة” التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر 2011)، وترجمت إلى عدة لغات، ثم “علبة الأسماء“ و “ثلاث ليال”.و “العين القديمة“.

 

محمد طمطم-الرباط

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *