تكسيرا للروتين والرتابة التي فرضتها علينا أزمة الوافدة غير المرغوب بها” كورونا العنيدة”، وللخروج من هذه الفوضى في الدراسة والتحليل ،ارتأيت بأن نتناول الموضوع من رؤية علمية ثابتة وجادة ،ربما تبدو بطابعها التراثي بعيدة عن الواقع المستجد والراهن المؤرق ،ولكنها عند التأمل والتفكر قد تصب في صلب المسألة وتصحح المفاهيم والعقليات ،المرتجلة والبراقة ،والتي قد جنت على البشرية بأوهام في التجديد وحسن التغيير،إلى أن وصلنا إلى هذا المأزق المحرج حضاريا قد أدت ثمنه البشرية غاليا ومن غير تعويض.
فمسألة وباء “كورونا” ربما يكون قد حسم أمره وانحصر علميا وعمليا، ما بين الحجر الصحي المنزلي وتطهير الجسم والمحيط بالماء غسلا واستنشاقا، وذلك لتحجيم انتشاره لا غير ،أما علاجه فهو بين بين ،لأن الأمر فيه إن ولعل وأخواتها على جميع المستويات وبين كل الدول والمؤسسات ،وما خفي كان أعظم.والله على كل شيء رقيب ،ومن زرع الشوك فلن يجني العنب.
وحينما نتأمل هذه التوصيات والنصائح الطبية والسياسية والاجتماعية والتكافلية المحمودة ظاهريا ،نجد أن جل قواعدها مطابقة لما هو منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية، من عزل والتزام للمكوث في الدار أو غسل لليدين قبل إدخالهما في الإناء أو استعمال اليد اليسرى فيما ليس بطاهر والاحتفاظ باليمنى للأعمال الطاهرة ،كعنصر إيجابي في مقاومة السلبي،أو التمييز بين ما هو نظيف وما هو طاهر ،إذ كل طاهر نظيف وليس كل نظيف طاهر،وكذلك المبادرة بصب الطاهر على النجس لدفعه وإضعافه وتحييده،وتحديد نسبة الماء الواجب لتحصيل الطهارة ،ثم طريقة الدلك والفور والموالاة ومسالك التمرير في الجسد والمكان لصحة الطهارة وتحصيلها مائة بالمائة، وما إلى ذلك مما يقتضي تفصيلا وتوقفا جديا عنده لاستنباط الأحكام الظاهرية والباطنية للطهارة وشروطها ،حيث يتكامل الفقه والتصوف والطب على مائدة واحدة.
ونحن في هذا المبحث سنتناول بعض أوجه العملية النقدية عند الغزالي وابن تيمية من دون تتبع لكل مواطنها، إذ أن هذا القصد سينحصر في تبيين الترتيبات المنهجية التي قام بها كل من الرجلين قبل أن يشرعا في النقد المباشر لمخالفيهما .وذلك لتبيين أن المقاومة أية مقاومة، فكرية كانت أو فيروسية أو عسكرية، قد تخضع بشكل أو بآخر لنفس المقاييس والترتيبات والاستراتيجيات ،لكن الفكرية قد يكون لها السبق والفضل لأنها من خصوصية الإنسان وعليها يتم كل البنيان.
أولا) الاستدراج والإلمام مع الإلزام عند الغزالي
1) فبخصوص الغزالي قد يبدو أنه سلك منهجا واضحا في نقده لكل من الفلاسفة والباطنية .
إذ فيما يخص الفلاسفة فقد أبدى منهجية متميزة في نقده لهم ،تتلخص في عرض المذاهب الفلسفية وتعريفها دون أي تدخل من الكاتب حتى يكون القارئ على بينة من أسسها ويرتاح نفسيا لتقبل الانتقادات عليها، فتكون بمثابة مرجع للتأكد من صحة النقد الموجه إليها.وهذا يؤسس لمبدأ ضرورة الإلمام بكل خصوصيات العدو أو الخصم قبل الشروع في مقاومته ومواجهته.
وعن هذا يقول في كتابه “مقاصد الفلاسفة “: “أما بعد،فإني التمست كلاما شافيا في الكشف عن تهافت الفلاسفة وتناقض آرائهم ومكامن تلبيسهم وإغوائهم ولا مطمع في إسعافك إلا بعد تعريفك مذهبهم وإعلامك معتقدهم،فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال و رمي في العماية والضلال “[1].
ثم إنه بعد تقديم هذا الكتاب وتوضيح مقاصد الفلاسفة،وذلك بإيجاز مع تفادي الحشو والانسياب وراء الحيثيات سيذيله بقوله:”ولنفتتح بعد هذا بكتاب تهافت الفلاسفة حتى يتضح بطلان ما هو باطل من هذه الآراء”[2].
وحينما يتعرض للنقد المباشر لهم فإنه لا يهتم بالأشخاص المهملين ولا بالمواضيع الهامشية في الفلسفة ،وإنما ينقض على الرؤوس،لأن “الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويل فإن خطبهم طويل ونزاعهم كثير وآراءهم منتشرة وطرقهم متباعدة متدابرة، فلنقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول؟ فإنه رتب علومهم وهذبها بزعمهم وحذف الحشو من آرائهم وانتقى ما هو الأقرب إلى أصول أهوائهم،وهو رسطاليس،وقد رد على كل من قبله حتى على أستاذه الملقب عندهم بأفلاطون الإلهي،ثم اعتذر عن مخالفته أستاذه بأن قال : أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه”[3].
بعد ذلك سيشرع في النقد المباشر للفلاسفة، مركزا القول على أن التأثر بالانحرافات الفلسفية ليس له عامل علمي صحيح وإنما هو مجرد حرب نفسية يغتر بها الدهماء من الناس وذلك بواسطة الهالة التي يضفيها الفلاسفة على محصلاتهم العلمية مما قد يقعد الأغبياء عن التحدي لتمويههم ويشل فكرهم عن تمييز الحق من الباطل،و بهذا يكون الفلاسفة قد قاموا باستدراج الأغمار بهذه الحيل حتى أوقعوهم في التبعية[4].
فكل هذه العمليات التي قام بها قد كانت تهدف إلى رفع الحجب النفسية التي تحول دون الوعي الكامل بالمسائل المموهة،وبالسعي إلى تقوية الإرادة العلمية والهروب من الانهزام والتصحر الفكري .
ونظرا لأن كتابه “تهافت الفلاسفة”مخصص لنقدهم،فهو سيعمل كل الوسائل لتحقيق هدفه تاركا مجال إثبات مذهبه لكتب خاصة كي لا يختلط على القارئ ما هو المذهب الرسمي عند الرجل وما هي الآراء المتروكة والمهملة[5].
حتى إذا أراد المطلع على هذه الكتب أن يبني عليها نسقه المذهبي فإنه سيجد الوضوح في العرض دون التشويش بسبب الاعتراضات والمجادلات التي يتطلبها الميدان النقدي.
2) فإذا نظرنا في نقده أيضا للباطنية فإننا نراه يسلك نفس المسلك التمهيدي وذلك بالقيام بعرض أفكارهم بأمانة،بل إنه سعى في تنظيمها رغم تبعثرها كما يقول:
“وكان قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر لا على المنهاج المعهود من سلفهم ، فجمعت تلك الكلمات ورتبتا ترتيبا محكما مقارنا التحقيق واستوفيت الجواب عنها حتى أنكر علي بعض أهل الحق مني مبالغتي في تحرير حجتهم وقال : هذا سعى لهم،فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها وترتيبك إياها.
وهذا الإنكار من وجه حق … ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر،فأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية … والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان”[6].
هذه المنهجية في التمهيد لنقد الباطنية قد كانت بمثابة استدراج لهم وإلزامهم بالاعتراف بأن هذه هي آراؤهم وذلك بعد استحسانهم لها، وتوهمهم متانتها وحجيتها،حتى إذا وقع الاعتراف بها جاء الرد عليها بالبرهان الواضح ، فتكون ضربة قاصمة لمذهبهم بالكلية.
فلقد كان الدافع إلى سلوك هذا المنهج هو ما وصل سمعه من أن الباطنية كانوا يضحكون على المؤلفات المنتقدة لهم،متهمين أصحابها بعدم الفهم لحججهم فكان الرد كما يقول :
“فلم أرض لنفسي أن يظن في الغفلة عن أصل حجتهم فلذلك أوردتها،ولا أن يظن بي أني وإن سمعتها لم أفهمها فلذلك قررتها”[7].
ثانيا) التركيم النقدي والذاتية مع الانفعال عند ابن تيمية
1) إن هذه الترتيبات المنهجية التي قام بها الغزالي سواء في نقد الفلاسفة أو الباطنية قد لا نجدها عند ابن تيمية،وذلك لأنه لم يقدم كتابا مثل”مقاصد الفلاسفة” يبين فيه اطلاعه الواسع على الفلسفة كما أنه في كتابه “الرد على المنطقيين “لم يمهد فيه لنقدهم بمنهجية خاصة ينوي سلوكها معهم رغم أنه كان منهجيا في مناقشتهم وتقديم البديل لمنطقهم فيما لخصه علي سامي النشار في كتابه “مناهج البحث عند مفكري الإسلام”،وإنما شرع مباشرة في نقد المنطق والمناطقة ولم يذكر موضوعا إلا وكان له تدخل فيه ينتقده أو يعلق عليه،وكذلك الأمر في باقي كتبه النقدية ومن أهمها كتابه “درء تعارض العقل والنقل”.
فلقد تميزت المنهجية النقدية لديه بعرض كل الأقوال حول موضوع ما ثم بعد ذلك يعطف عليها بالنقد، وذلك بتجزئته وتعيين الخائضين فيه،إذ أن كتبه النقدية تتضمن حشدا كبيرا من أسماء الأشخاص يجمع فيها بين الفلاسفة والمتكلمين والصوفية [8]. . .
فكأنه هنا يريد أن يجمع الأخطاء الفكرية من كل جوانبها ويرد عليها في كل نقاطها كبيرها وصغيرها لا يكاد يترك من الخطأ ولو لِماماً.
لكن الملاحظ في نقده للمخالفين أنه لا يسلك فيه مبدأ العشوائية وإنما يذهب في بعض الأحيان مذهب الغزالي،إذ أنه يفرق بين ما يتوجب نقده عند الفلاسفة وما لا مبرر له إلا بقدر عدم استيفائهم لشروط البحث العلمي،بل إنه رغم تشدده مع الفلاسفة يقر لهم في بعض علومهم بالمصداقية ولا ينكرها،بل قد يفضل أقوالهم على أقواك المتكلين،وخاصة في العلوم الطبيعية والرياضية كما يقول :
“والخطأ يقوله المتفلسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين،وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية والرياضية فقد يكون المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام فإن أكثر كلام أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم ولا عقل ولا شرع.
ونحن لم نقدح فيما علم من الأمور الطبيعية والرياضية لكنا ذكرنا أن ما يدعونه من البرهان الذي يفيد علوما يقينية كلية بالأمور الطبيعية ليس كما يدعونه بل غالب الطبيعيات إنما هي عادات تقبل التغير ولها شروط وموانع”[9].
وإذا بحثنا في مستويات نقده للغزالي خصوصا فسنجد أن الرجل يكن له احتراما مترددا فيه،قد يتجلى من اختلاف مواقفه من بعض آرائه بين القبول والرفض بل،إننا سنجده يعترض على من ينتقده، فيقول:
” وقد أنكر عليه طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق،وزعموا أن طريقة الرياضة و تصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم وأخطئوا أيضا في هذا النفي، بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم “[10].
لكن حينما يدافع عنه في هذا النص نجده في مواقف أخرى يتهمه بالتلبيس على المسلمين أمرهم وإلباس التصوف لباس الفلسفة حتى يتسنى له إدخالها إلى الأوساط العامة من المسلمين .
وهذا اضطراب واضح في موقفه منه،إذ كيف يجمع القول بالصفاء وحسن القصد والنية الحسنة بالتلبيس والتمويه عشية ،وهي فضائل ورذائل لا تجتمع معا في شخص واحد بعينه[11].
2) فلقد كان السب أكثر وضوحا في كتاباته النقدية الخاصة بالرد على المخالفين،وأذكر من أهمها كتابه “منهاج السنة “حيث يقول في إحدى فقراته ردا على ابن المطهر الحلى:
“وهذا المصنف سمى كتابه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة وهو خليق بأن يسمى منهاج الندامة كما أن من ادعى الطهارة وهو من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم،بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق،كان وصفه بالنجاسة والتكدير أولى من وصفه بالتطهير”[12].
هذا المسلك الذي سلكه في النقد كان الغزالي قد حذر منه وجعله مدعاة إلى التعصب والتشبث بالباطل من طرف المخالفين ،ورأى أن هذا فيه هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس ،ولو كان الداعية المتعصب يدعي أن هذا يعتبر ذبا عن الدين ونضالا عن المسلمين![13].
وباختصار فإن الغزالي وابن تيمية قد كان لهما دافع قوي لسلوك منهج خاص بكل واحد منهما،إلا أنه يبدو بوضوح تام أن مسلك الغزالي النقدي قد كان أكثر أكاديمية وجودة وانتظاما علميا من ابن تيمية،وذلك من خلال العرض الذي مر بنا،وكذلك إذا رأينا وقع نقد كليهما على المنتقدين،بحيث سنجد أن الغزالي قد ترك استياء واضحا لدى الباطنية وفضحا منهجيا لترهاتهم،وخاصة عند الفلاسفة،إذ أنه كان -إن صح القول وبدون تحيز- المفكر المسلم الوحيد في تاريخ الفكر الإسلامي الذي استطاع أن يصرعهم بمصطلح “تهافت الفلاسفة”منذ زمانه حتى يومنا هذا،بحيث مازال يشتكي منه موالوهم و يسعون للثأر منه[14]!.
وأخيرا ،أوليس هذا المنهج ونماذج مثله أولى بتوظيفها لمقاومة كورونا وأخواتها وإخوانها وقرابتها الحسية والمعنوية في الحال وبعد وفاتها ،وذلك كدعوة إلى إعادة النظر في مناهجنا العلمية المستقبلية وطرق التحصيل والنقد والإحاطة بالقضية من كل وجوهها واحتمالاتها ،حتى لا نصبح مرة أخرى،علماء وعامة وساسة ومسوسين، وأطباء ومرضى وأصحاء، فريسة للأكاذيب والألاعيب والاستغفال والاستبلاد، مما قد يشكل خطرا على العباد أو يشل البلاد ويجعل المرض في واد والعلاج في واد؟.” وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ “.” وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا “.
[1] الغزالي:مقاصد الفلاسفة،تحقيق سليمان دنيا،دار المعارف بمصر ط1961ص31
[2] نفس ص385
[3] الغزالي :تهافت الفلاسفة ص76
[4] نفس ص84
[5] نفس ص123
[6] الغزالي:المنقذ من الضلال ص34
[7] نفس ص35
[8] ابن تيمية:الرد على المنطقيين ص148-149
[9] نفس ص31
[10] نفس ص11
[11] ابن تيمية:مجموع فتاوى ،كتاب علم السلوك ص551
[12] ابن تيمية :منهاج السنة ج1ص5
[13] الغزالي:إحياء علوم الدين ج1ص40
[14] الجابري:نقد العقل العربي1تكوين العقل العربي ص290
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
شعبة الدراسات الإسلامية وجدة المغرب