أقامت دار الشعر بتطوان تظاهرة شعرية كبرى حول الشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني”، نهاية الأسبوع الماضي، بمدينة القصر الكبير. التظاهرة التي انعقدت تحت مسمى “شاعر في الذاكرة”، حضرها المئات من المهتمين بالشعر والفن الأصيل، من مدينة القصر الكبير والمدن المجاورة، احتفاء بشاعر راسخ في الذاكرة، ومؤسس للقصيدة المغربية المعاصرة.
واستهل المدير الإقليمي لوزارة الثقافة أحمد اليعلاوي هذا اللقاء، مؤكدا على أهمية استحضار ذاكرة وتجربة محمد الخمار الكنوني، وهو “أحد أعلام وعلامات الثقافة والإبداع في القصر الكبير، وفي هذا البلد الأمين، منذ فجر الحداثة والتحديث”. وذهب المتحدث إلى أن دار الشعر بتطوان قد “عودتنا على مثل هذه المبادرات الراقية، عبر الانفتاح على مختلف مراكز الثقافة والتراث في جهة طنجة تطوان الحسيمة، كما تنفتح دار الشعر بتطوان على سائر المدن والفضاءات الثقافية في المغرب، من الحسيمة إلى وجدة… ومن مكناس إلى القنيطرة… فالرباط والدار البيضاء”. ورحب البرلماني ورئيس بلدية القصر الكبير بالحضور الكبير الذي تابع اللقاء، منوها بانفتاح دار الشعر بتطوان على مدينة القصر الكبير، ومرحبا بكل المبادرات الثقافية في المدينة. بينما اعتبر مخلص الصغير، مدير دار الشعر بتطوان، أن “مدينة القصر الكبير تستحق ما هو أكبر، وأن لهذه المدينة ذاكرة ثقافية وعلمية وفنية زاخرة، يمكن أن تكون مرجعا ملهما، نعود إليه من أجل استئناف مشروع تحديث المدينة المغربية والثقافة المغربية، والشعرية المغربية”. ومن هذه المرجعيات الشعرية و”القصرية” الكبرى تجربة الشاعر محمد الخمار الكنوني، يضيف مخلص الصغير، صاحب ديوان “رماد هسبريس”، أو “يتيمة الشعر المغربي”، وهو الديوان الوحيد والفريد للشاعر، والذي كان كافيا ليجعله من مؤسسي القصيدة المغربية المعاصرة، على غرار مجايله الشاعر أحمد المجاطي، الذي نشر هو الآخر ديوانا وحيدا أيضا هو “الفروسية”. والمصادفة أن الديوان صدر في السنة نفسها التي صدر فيها ديوان “رماد هسبريس”، أي سنة 1987. ويرى الصغير أن قصائد “هسبريس” كتبت ما بين منتصف الستينيات (1965) وحتى بداية السبعينيات (1972). ولو أن الديوان نشر بداية السبعينيات، لتأسست كل القراءات النقدية لظاهرة ومظاهر الشعر المغربي على تجربة الكنوني. وتوقف مدير الدار عند المرحلة التي أقام فيها الشاعر بالقاهرة، في الستينيات، حيث تابع دراسته الجامعية في مصر، هنالك حيث التقى بالمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتلقى منه قيم النضال، مثلما تشبع بقيم الجمال متأثرا بشعراء تلك المرحلة، خاصة صلاح عبد الصبور وأمل دنقل بشكل خاص، ثم مع حجازي ومحمد عفيفي مطر وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة والآخرين… مثلما أفاد الخمار الكنوني من الشعرة الأندلسية، التي تخصص فيها أكاديميا، حين حقق كتاب “الوافي في نظم القوافي” للشاعر الفيلسوف أبو البقاء الرندي، كما رفد من الشعرية الإسبانية، التي اطلع عليها وخبر تجارب شعرائها، جيلا بعد جيل.
وفي درس افتتاحي حول تجربة الشاعر محمد الخمار الخمار الكنوني، من خلال ديوانه “رماد هسبريس”، ذهب الناقد المغربي نجيب العوفي إلى أن هذا الشاعر هو “آخر الشعراء “الحوْليين” أو عبيد الشعر المقلين المنقّحين – المحكّكين، الذين لا يُطلقون سراح القصيدة حتى يكتمل مخاضها وئيدا ويجيئها الطلّق. وهذا درس بليغ للأجيال الشعرية الجديدة، التي تقول الشعر في عجَلة من أمرها. وربّ عمل شعري فرْد جيّد، يُغنيك عن هذَر الشعر وخُطبه”. لأجل ذلك، كان ديوان “رماد هسبريس” حسب المتحدث “من أهم الأعمال الشعرية التي أنعشت الحداثة الشعرية المغربية في بواكير ربيعها. وهو الديوان الذي ضمّ ولمّ خلاصة التجربة الشعرية للشاعر خلال رحلة حياته القصيرة التي أفلَت سريعا قبل الأوان ، قبل أن تكتمل القصيدة ويستوي العزْف”. وحدائق هسبيريس للعلم ووفق المتخيّل الأسطوري – التاريخي ، كانت تقع في شمال المغرب على شاطئ المحيط الأطلسي في حوض اللّوكوس، غمرتها مياه البحر في سونامي قديم فأمست في خبر كان. “ومن عظمة الخمار الشعرية ، استحْضارُه حدائقَ هسبيريس التاريخية – الأسطورية مُتّكأ ومرجعا مجازيا لتجربته الشعرية”، بمعنى أن الخمار وهو ابن القصر الكبير المدينة المُتاخمة لحدائق هسبيريس على شطّ المحيط ، “كان “يُمغْرب ” تجربته الشعرية ذاكرةً واستعارة، ويمْتحها من مُحيطه وهو غائص في همومه وشجونه”. وهو في هذا يبدو متحرّرا من النماذج الميتولوجية النمطية التي هيمنت على القصيدة الحداثية المشرقية، في تجلياتها اليونانية والبابلية والآشورية والفينيقية والفرعونية، “عائدا إلى الحفر في التربة العميقة للذاكرة المغربية ، الجغرافية والتاريخية”.
كما رسم العوفي صورة للشاعر الخمار الكنوني، كما تعرف إليه وعاصره في رحاب وشعاب كلية الآداب بالرباط، حيث عملا معا، وفي حي حسان، حيث عاشا معا في زمن الشعر والفكر والعنفوان. وقد “كان الفقيد متوحّدا مُحبّا للعزلة والخُلوة… وكانت له ممْلكته الخاصة، التي يلوذ ويأنس بها”. ويرى العوفي أن هذا السياج الخاص الذي ضربه الشاعر على نفسه وهذه الخُلوة التي اسْتطاب الإقامة فيها “كانا ضمن العوامل التي نحتتْ من وجدانه وجسده وجعلته يحترق داخليا بهمومه وشجونه، فانطفأ سراجه قبل الأوان”.
بعد ذلك، انصرف الحاضرون إلى متابعة أمسية شعرية شارك فيها أربعة من شعراء القصر القصير، من أجيال مختلفة وصيغ ومقترحات جمالية مغايرة. أمسية شعرية استهلها الشاعر عبد الإله المويسي، ثم الشاعرة أمل الأخضر، فالشاعر عبد السلام دخان، والشاعرة نجية الأحمدي. بينما أدار أشغال اللقاء الكاتب المغربي محمد أكرم الغرباوي. واختتم الفنان المغربي والعربي عصام سرحان هذا الحفل الشعري والفني، رفقة فرقة أصدقاء دار الشعر للموسيقى العربية، التي استهلت اللقاء بأداء موسيقى أغنية “آخر آه” التي كتب كلماتها الشاعر الخمار الكنوني، ولحنها أسطورة القصر الكبير الملحن عبد السلام عامر، الذي عاصر الموسيقار محمد عبد الوهاب، هذا الأخير الذي أشاد بعبقرية عامر. من جانبه، استحضر ابن القصر الكبير الفنان عصام سرحان ألحان عبد السلام عامر، حين أدى أغنيته “راحلة”، التي كتب كلماتها عبد الرفيع جواهري، وأداها الراحل محمد الحياني. كما أدى سرحان عددا من القصائد العربية والموشحات التي أبدعها شعراء العربية ولحنها وغناها أعلام الفن الأصيل في الزمن الجميل. زمن عاشته مدينة القصر الكبير في الستينيات والسبعينيات، مع محمد الخمار الكنوني وعبد السلام عامر، واستعادته دار الشعر بتطوان في هذا اللقاء التاريخي بمدينة القصر الكبير التي لا تزال تعدنا بالشعر الكثير.
طنجة الأدبية