الباص الصغير المتوجه الى بغداد يطلق صافرته، ليعلن استعداده للرحلة. يلتفت السائق الى الخلف، يتفقد الركاب، يسأل عن المرأة وصبيها التي حجزت المكان بظهر مقعده. ينادي عليهم بالصعود، صوت الراكب في المقعد الأخير يطلب الصلاة على النبي وقراءة الفاتحة بغرض سلامة الوصول. يردد بعده كل ركاب الباص. كان جلوسي بجانب المرأة وأبنها، أمرأة أربعينية، وجه ذابل أكتنز الألم ، والهموم فبانت على أجفان ذابلة بتلافيف من سهر طويل، يبدو في داخلها حزن دفين مغمض العينين، يتجول بين زفرات الشفاه وحسرات في الجوف، يلتفت الصبي ذو الثانية عشر على تقديري له لأمهِ، طالباً منها أن تضحك. تبتسم أبتسامة كاذبةً وتضمه الى صدرها، يسّفح الدمع بين ثنايا أصابعها فينحدر عندما تحاول أيقافه. فجاة يبادرها الصبي بالسؤال: ماما هو ربي متى يستضيفني لأرتاح من زرق الإبر؟
تجيبه بصوتٍ كسير ذليل يائس، يكبت وجعاً.
-لا؛ ربك يحبك، سيشفيك وتعود الى أختك التي تحبك وتشتاق إليك.
جذبني سؤاله، ألتفت اليه مع إبتسامة حانية.
-أنت جميل ورائع ما أحلى وجهك والله يحب الأطفال فهم أحبابه.
-لكن شعري سقط. وتغير حالي لم أعد كما كنت وتعبت من زرق الإبر. سحب كُمَ قميصه ليبان مكان زرق الإبر التي تركت آثاراً لحفر صغيرة تشبه صغار النمل. مع قطرات دمع كلؤلؤ في أماق العين. قبلتُ يده عدة مرات ، أبتسم سحب نفساً عميقاً كأنه يريد أن يبرد جوفه عاودتُ الإبتسامة ثانيةً ، لاذ بوجه للناحية المعاكسه٠ ليمسح عناقيد الدمع التي ترسم جداولها وخرائطها على خدود مصفرة ذابلة كأوراق الخريف. ويسحب نفسا عميقا ليطفأ نارا تلتهب داخله، أحسست ان الدنيا تضيق وتبدو اصغر حجما من خرم الإبرة .
آنسْتهُ طيلة الطريق محاولاً ان أشغله بالتفكير بأشياء أخرى لكننا ندخل رغماً عنا دائرة المرض والألم والخوف من القادم الموجع في كل إتجاه سلكناه. لم يعد يرتاد المدرسة أو يلعب الكرة كما كان مع أصحابه، لا رغبة له في أي جديد، لا أمنيات إلا أن يهدأ الوجع وينام الألم المُستبد. نسيَّ أسماء زملاءه في الصف إلا اسم أخته التي تصغره بسنتين، أمل، بقي عالقا في لسانه وذاكرته الى نهاية الرحلة.
فاضل العباس – العراق
شكرا للمحررين