حاصر فرناندو إشبيلية سنة ونصف، وذلك بعد سقوط قرطبة، وأخذ الحصار يشتد والمسلمون المحاصرون يعانون الجوع والحصار، ولم تفلح محاولات العلماء في بثّ الروح وإعادة الثقة إلى النفوس الواهنة والأبدان الناحلة التي هدّها الجوع وعضَّها الحرمان، وأنهكها القتال المستمر طوال خمسة عشر شهرًا، دون أن تأخذ قسطًا من الراحة، ولم تتحرك الدول المسلمة القريبة لنجدة إشبيلية؛ فالدولة الموحدية مشغولة بمحاربة الدولة المرينية الناشئة، والدولة الحفصية لم تُلقِ بالاً إلى صرخات المحاصَرين، ودولة بني الاحمر الأندلسية في غرناطة مغلولة اليد بمعاهدة فخرية مع القشتاليين، ويشترك أميرها في حصار إخوانه المسلمين في إشبيلية؛ لكل هذا غاضت الآمال في النفوس، وامتلك اليأس القلوب، وفقدت إشبيلية أي بارقة للإنجاد.
ولم يجد زعماء إشبيلية مفرًا من التسليم، وحاولوا أن يخففوا من وقع المصيبة، فعرضوا تسليم ثلث المدينة فرفض فرناندو الثالث هذا العرض، فحاولوا مرة أخرى بتسليم نصف المدينة، فأبى فرناندو الثالث إلا أن تسلم المدينة كاملة، فكان له ما أراد. وانتهت المفاوضات بين الفريقين على أن تسلم المدينة كاملة سليمة لا يُهدم من صروحها شيء، وأن يغادرها سكانها، مع السماح لهم بأن يحملوا كل أمتعتهم من مال وسلاح، وأن تُسلَّم مع المدينة سائر الأراضي التابعة لها.
ولما وقع الاتفاق بين الفريقين، سُلِّم قصر الوالي ومقر الحكم في إشبيلية إلى ملك قشتالة، فرفع عليه شعاره الملكي فوق برج القصر العالي في (3 شعبان 646 هـ / 21 نونبر 1248)، وكان ذلك إيذانًا بسقوط إشبيلية في أيدي النصارى القشتاليين. وقضى المسلمون شهرًا في إخلاء المدينة، وتصفية حاجاتهم، وبيع ممتلكاتهم قبل أن يغادروها، وتقدر بعض الروايات عدد من خرج بنحو 400 ألف مسلم، هاجروا إلى مختلف نواحي المغرب وماتبقى من مدن الأندلس المسلمة.
وفي (5 رمضان 646 هـ / 22 دجنبر 1248) دخل فرناندو الثالث مدينة إشبيلية مزهوًا بنفسه، مختالاً بقواته، يحوطه موكب ضخم، واتجه إلى مسجد المدينة الأعظم الذي تحول إلى كنيسة، وقد وُضع به هيكل مؤقت، وأقيم في المسجد قداس الشكر، ثم اتجه إلى قصر إشبيلية، حيث أدار شئون دولته، وقام بتقسيم دور المسلمين وأراضيهم بين جنوده، ومن ذلك التاريخ أصبحت إشبيلية عاصمة مملكة قشتالة النصرانية بدلاً من طليطلة.
وهكذا سقطت إشبيلية حاضرة الأندلس بعد أن ظلت خمسة قرون وثلث القرن تنعم بالحكم الإسلامي منذ أن فتحها موسى بن نصير سنة (94 هـ / 712)، وظلت منذ ذلك الحين مركزًا للحضارة، ومنارة للعلم، ومأوى للعلماء والشعراء والأدباء، ولا تزال آثارها الباقية شاهدة على ما بلغته المدينة من نمو وازدهار إسلامي.